الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
قديماً قيل اطلب العلم ولو في الصين، واليوم يقال : اطلب السعادة في الفكر والإبداع الصيني، المنغمس بالحياة بجمالها، وبهائها وهو يتكىء على إرث ثلاثة آلاف عام وربما أكثر من العبق، ويعكس واقعاً اجتماعياً متميزاً بقدرته على الفعل والعطاء، والحكمة الجميلة كما تشير الدراسات النقدية حول الأدب الصيني.
«موضوع استقطب اهتمام شريحة كبرى من أدباء الصين».
أدباء أقامت روائعهم علاقة صداقة مع فن «القص اليومي» كما يسمونه، الفن الذي تغلغل في أعماق الرواية والشعر الوجداني وصولاً إلى المسرح الصيني العريق.
ففي «الدفاتر السرية» للروائي والقاص الصيني الكبير لي يو ينطلق البطل في رحلة البحث ليس فقط عن الحكمة إنما عن السعادة أيضاً التي ستساعده على العيش بشكل أفضل، لكن كيف لذلك أن يتحقق؟
يجيب لي يو على هذا التساؤل من خلال الأمثال والحكم التي تمهد الطريق أمام الانسان حين يفكر في السعادة فيقول : هي أصلاً في متناول يده تقع على مرمى بصره في حديقة منزله فالحدائق المنزلية تشكل بوصلة هذا البحث بل متعة دنيا الحياة الصينية، ففي تلك الحدائق الأفقية حيناً والشاقولية حيناً آخر تنتشر كما في رواية «الدفاتر السرية» المانوليا والكاميليا وعود الصليب.
فالحديقة المنزلية سواء كانت في القرية أم في المدينة الصينية هي ملجأ الإنسان الساعي وراء التأمل والاسترخاء والحلم على ضوء القمر، حتى الجبال والصخور كما يقول لي يو تستطيع بعطر أعشابها أن تحمل لنا الراحة النفسية والهدوء والسكينة مطلب أي كائن حي في كل زمان ومكان .
وكان هذا الموضوع قد شغف الأديب شين فو في مذكراته «المؤدب الفقير» حين يجالس الأورخيدا واللوتس والنرجس والأقحوان وشجيرات الخيزران فتحمل له تلك المساكنة راحة الفكر والجسد.
يقول فو في تلك المذكرات : كلما جاء الخريف أعود إلى حديقتي الحبيبة لأنعم بعشق الأقحوان وألتقط منها باقة أداعبها كمن يداعب طفله، أنظر إلى القرفة وأعوادها الشقراء أستنشق رائحتها السماوية وأنا أعلم أنه بعد نموها هذا سيأتي العدم والموت كما هي الأمجاد والثروات التي ستنتهي إلى العدم.
وفي الحدائق الصينية كما تسجل الروايات والقصائد يكتشف المرء مع كل خطوة وجهة نظر جديدة وأبعاداً متباينة للجمال، جمال الطبيعة وتوارد مشاهدها مع النفس البشرية ..من هنا جاءت أهمية البحث عن السعادة في الحديقة المنزلية والحديقة الداخلية للإنسان وهنا نتذكر قول فولتير : «علينا أن نزرع حديقتنا ونحرثها لتعطينا ثماراً» ويتابع لي يو : إن الربيع هو فصل لقاء السماء والأرض.
أما الأديب ين ماي فيتابع مسيرة لي يو بعد قرن من الزمن حيث ينصرف إلى زراعة حديقته بعد استقالته من وظيفة رسمية حيث كان يعمل مستشارًا للامبراطور في ذلك الوقت، يوم ضربت المجاعة مقاطعة لي شوي وأدت إلى أعمال عنف دونها ماي في روائعه الأدبية التي تظهر فيها أخلاقياته وتصرفاته المليئة بالحكمة وإحساسه بالآخرين ففي قصيدته «متع المدينة» يعبر ماي عن إحساسه بالجياع والمعاناة من مآسي الفاقة إذ يشيد حين ذاك في داره مكاناً لإيواء الفقراء والمحتاجين وأجنحة تعبرها سواقي المياه العذبة كما عالج مشاتل الخيزران السقيمة والورود المريضة وفي تلك الدار استقبل ماي مشاهير أدباء عصره (نهاية القرن الثامن عشر) وهو عصر نهضة الأدب الصيني إذ لم يتم الخمسين من عمره حتى أصبح من أبرز كتاب عصره وانتشر اسمه جنوب شرق آسيا ويومها أصدر الجزء الأول من مجموعته «زبويو» أي مالم ينطق به المعلم (وهي عبارة مقتبسة من محادثات كونفوشيوس ) التي تنتمي لما يسمى «الغرائبية» ويتناول ماي في تلك المجموعة التي استغرقت كتابتها خمس سنوات أعمال العنف والفوضى واللصوصية التي اجتاحت البلاد يومذاك، ولم يتوقف هذا الأديب المتعدد المواهب عند كتابة الشعر بل تطرق للنقد والقص الشعبي بعد الرواية، وعلى نهجه سار كل من جين زيانغ وشي شوكينغ اللذين ترجمت أغلب أعمالهما الى الفرنسية ومنها «بحيرة النساء» في نيسان هذا العام والتي تجري أحداثها في مقاطعة نينغ كسيا حيث تتواجد بعض أقليات الصين ومنها قبائل الهوي التي تعتبر من سلالة التجار العرب الذين صنعوا أمجاد طريق الحرير ..إذ تمتلك تلك القبائل أدباً خاصاً بها أيضاً تسلط قصص «بحيرة النساء» الأضواء على عشق العرب للحدائق الغناء من خلال يوميات امرأة تعيش مع زوجة ابنها قرب بحيرة تحيط منطقة جبلية تعمل كلتاهما في زراعة بستان الأسرة لاطعام الأولاد وتتوقف المجموعة القصصية عند تلك التفاصيل التي تشغل حياة الناس في تلك المناطق الصينية الرائعة الجمال.
إذاً هو الغزل مع الطبيعة كما يقول ين :حين نغازل الطبيعة يمتلئ القلب البشري بسعادة تغمره دون أن يدري مصدرها.
العدد 1136 – 14-3-2023