وعلى هامش ذكرى مرور ثلاثين سنة على الحفل الأول للفرقة السيمفونية الوطنية أستعيد اليوم واقعة تتعلق بمسعى صلحي الوادي لنشر التذوق الموسيقي بين الجمهور، وهو مسعى واجه عقباتٍ وإحباطات لا ممن يجهلون أهمية هذا الأمر فحسب، وإنما أيضاً من بعض طلابه والمقربين منه.
في زمن لا يحلم فيه موسيقي بنظرة إنصاف مجتمعية. بدأ صلحي الوادي مغامرته الموسيقية راجياً تقدير ذلك الإبداع الإنساني الراقي الذي يتطلب دراسة علمية تخصصية، وما كان له أن ينجح دوماً في مبتغاه، فغير مرة أصطدم بمسؤول ثقافي غير متفهم. أحدهم طلب منه يوماً أن يغلق ذلك (المكان المشبوه الذي يديره) مستخدماً تعبيراً سوقياً مخجلاً(!). ومثله من شُغل كلياً بتدمير مشروعه الموسيقي حاشداً لأجل ذلك كل إمكانيات موقعه.
كان التحدي الأكبر الذي واجهه في حياته هو إقناع الناس، والمسؤولين الثقافيين، بتوجهه، في ظل اتهامات جاهزة عن إهماله الموسيقا العربية لصالح موسيقا الغرب، منطلقة حيناً من الحرص على التراث الموسيقي العربي، ومدفوعة في معظم الأحيان من الشعارات المحنطة التي تحاول ستر الجهل ب (الموسيقيين).
في مواجهة تلك الاتهامات كان يقول: «أنا أعلِم الموسيقا كإبداع إنساني تراكم عبر آلاف السنين وأنتج علومه ومدوناته، لكن كيف أعزف حكايات؟ كالقول إن أحدهم عزف فأبكى ثم غير الأوتار فأضحك وغيرها ثانية فنام القوم.. هذا تراث (حكائي) وليس إرثاً موسيقياً، ولو كان عن الموسيقا.. ».
وإثر حضوره مرة عرضاً مسرحياً مترجماً تساءل: لماذا تُقدم الإبداعات المسرحية العالمية دون اعتراض المثقفين، وينقلب الحال مع الإبداعات الموسيقية؟!
طال التشويه والتلفيق الكثير من جوانب عمل صلحي الوادي، فبعد الحفل الأول للفرقة السيمفونية، انتقد صحفي (فضائحي) في مقالة صفراء إطلاق صفة الوطنية على الفرقة ذلك أنها، حسب زعمه، مؤلفة في غالبيتها من العازفين الروس. ترفّع صلحي عن الدخول في سجال رخيص مع صحفي لا يحظى بأدنى قدرٍ من الاحترام، وبدلاً عن ذلك توجه إلى الجمهور في بداية الحفل التالي للفرقة ليقول إن بعض العازفين فيها هم من الأساتذة الروس الذين يدرّسون في المعهد العالي للموسيقا، وأن طلاب كل واحد منهم يجلسون في الفرقة بجوار أستاذهم كجزء من العملية التعليمية، ثم طلب من الأساتذة الروس الوقوف ليراهم الجمهور فلم يزد عددهم عن أربعة عشر خبيراً من أصل إجمالي أعضاء الفرقة البالغ عددهم خمساً وثمانين أستاذاً وطالباً.
كان حلم صلحي الوادي الموسيقي يتخطى كل طموح، وكانت واحدة من أكثر لحظات حياته سعادة تلك التي قدمت فيها الفرقة السيمفونية الوطنية حفلها الأول في قصر الأمويين، فقد كانت تتويجاً لجهد سنوات طويلة في إعداد الكادر الموسيقي، وفي إعداد الجمهور الموسيقي أيضاً. وتبادلنا الحديث مرة عن السبيل لتنمية اهتمام الفنانين التشكيلين بالموسيقا، واتفقنا على إقامة حفلات خاصة من مجاميع موسيقية صغيرة في خزان الماء القديم تحت نادي الفنانين التشكيليين (صالة الرواق بدمشق) الذي يمتلك ميزة العزل الصوتي والصدى، وأحيا الحفل الأول أربعة عازفين على آلات نحاسية، أمام حضور لم يتجاوز عددهم العشرة أشخاص، ومع ذلك كان الحفل رائعاً، وكذلك صداه، فتجمع في المرة الثانية ضعف عدد الحضور. لكن عازفي الوتريات الأربعة غادروا المكان قبل بدء الحفل بإيعاز من رئيس المجموعة الذي قال إنه أخبر الأستاذ صلحي بقلة عدد الحضور فوافق على انسحابهم. وحين دافع الوادي في اليوم التالي عن عما حصل، قلت له إن تصرف طالبه قد أنهى تجربة مبشّرة وهي ما تزال في بداياتها، ودفاعك عن سلوكه نقيض لما سلكته طوال حياتك، فلو أنك تصرفت مثله مرة واحدة لما كان لدينا هذا الجمهور الذي يتابع حفلاتك.
لم يجب صلحي حينذاك، لكنه شعر بصدمة حقيقية عندما علم أن طالبه الذي ترفّع عن العزف أمام جمهور صغير من الفنانين التشكيليين في مكان ثقافي يليق بالموسيقا، لم يجد حرجاً في العزف أمام المجموعة ذاتها في حفل عشاء أقامته سيدة ثرية في حديقة منزلها..