أديب مخزوم:
تم إطلاق اسم الفنان الرائد الراحل ناظم الجعفري (1918-2015) على المركز التربوي للفنون التشكيلية بمنطقة باب السلام وباب توما، وهذه الخطوة من ضمن خطوات تكريم بعض الفنانين والباحثين التشكيليين الراحلين، التي اتخدتها مديرية تربية دمشق ..
والمحتفى به من كبار الفنانين الانطباعيين السوريين الرواد، رغم أن النقد السوري تجاهله لسنوات طويلة، ووضع لوحاته عن جهل أو خطأ في خانة التجارب الواقعية (راجع مجلة الحياة التشكيلية السورية العدد 17-18 صفحة 38) وهذه مغالطة كبيرة لا تزال الكتابات تقع فيها إلى الآن، حيث كانت لوحاته الأولى شاهدة على مساهمته في إطلاق الشرارات الأولى لظهور ما يمكن تسميته بالانطباعية السورية إلى جانب ميشيل كرشة ونصير شورى وسواهما.
وهذا يعني أن اللوحات التي قدمها في بداية انطلاقته الفنية في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، كانت تقترب في بعض الأحيان من ملامح الصياغة الانطباعية الحديثة في وقت كان يذهب فيه غالبية الفنانين الرواد الأوائل، الذين سبقوا فناني الحداثة، إلى صياغة واقعية ظلت سطحية ولم تتجاوز حدود الشكل الإيضاحي والتسجيلي، وبالتالي لم تصل إلى اللمسة العفوية التي تحرك الألوان والظلال والأضواء وتمنح الأشكال المرسومة حيوية تصويرية متجددة.
ناظم الجعفري كان يفيض في لوحاته عن دمشق القديمة والمرأة والعناصر الأخرى، بما يسمى بالانطباعية السورية (تقديم المشهد الواقعي بلمسات لونية متحررة) وبذلك كان يضفي على فسحة اللوحة إيقاعات ضوئية باهرة، من خلال المحافظة على القواعد الانطباعية، التي تكرسه كواحد من المصورين الرواد البارعين والباحثين عن يقظة تشكيلية، منفلتة من الصياغة التسجيلية السهلة.
وفي لوحاته (التي تقترب من الرسم الانطباعي في مظهرها الاحتفالي) استعاد أجواء الحارات والبيوت الشعبية القديمة، الفسيحة من الداخل والخارج، والمطلة على نصاعة بياض زهر الياسمين الذي كان ولا يزال يعطي لدمشق رونقها السحري المتجدد، ففي لوحاته ملامح كثيرة من أسرار العمارة الدمشقية القديمة، الباقية في مشاهدات القناطر والأقواس والمقرنصات والبحرات ونوافير المياه وأحواض الورود والزهور، وأشجار الليمون والأضاليا والمنثور، المكشوفة على الهواء والسماء في البيوت الفسيحة، التي تتداخل في حكايات تكاوينها الحجارة المتناوبة الألوان والزخارف الهندسية والنباتية، التي تطرب العين والقلب وتترك في النفس مشاعر الفرح وأحاسيس الانتماء إلى مدينة تاريخية عريقة، موغلة في القدم.. وقد يكون ناظم الجعفري أحد أكثر الفنانين السوريين، الذين تفاعلوا مع جماليات العمارة الدمشقية القديمة، ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أنه كان يحمل لوحاته وألوانه، ويقوم بجولات فنية، في أمكنة كادت أن تصبح وهمية وفارغة من السكان، بعد سيطرة التشييد الخاطئ للتحديث العمراني.. ففي لوحاته ورسوماته، نلمس وبوضوح مؤشرات التفاعل مع جماليات العمارة المملوكية، التي بحث عنها طويلاً في شوارع وأحياء وأزقة وبيوت المدينة القديمة..كما جنح أيضاً ومنذ بداياته إلى تصوير المرأة وضمن رؤية متفاوتة ما بين الواقعية والانطباعية.
ويقال بأن ناظم الجعفري أنجز خلال مسيرته الفنية الطويلة أكثر من ستة آلاف لوحة (ما بين زيتية ورسوم باستيل وفلوماستر) عن دمشق القديمة، والتي يمكن اعتبارها بمثابة وثائق فنية فريدة من نوعها تحفظ خصوصيات التراث المعماري، الذي اكتسبته المدينة خلال قرون عديدة عبر لمسات لونية عفوية لا تذهب إلى ذاتية جامحة، بل تعمل على إيجاد توازنات منطقية بين الوعي والعاطفة.
وشهرته لا تكمن فقط بكونه رسام الحارات والأزقة والبيوت الدمشقية القديمة فحسب، وإنما تكمن أيضاً بأنه رسام وجوه “بورتريهات” من الطراز الاول، ولقد أحس منذ البداية بأهمية اللمسة اللونية العفوية والمتحررة التي تملص مواضيع الوجوه من القوالب الكلاسيكية المثالية وتمنحها حيوية متجددة، ولقد اقترب في بعض لوحات الوجوه من أجواء الافتتان الأنثوي وعكس فيها جمال المرأة الريفية والارستقراطية بذوق مرهف (ولا سيما في لوحات: سيدة شقراء في فستان أسود، ملك بقبعة القش، فتاة تحمل رسالة، السيدة خانكان، هند خانكان بجانب الشلال، غادة المتحف، فتاتان في المتحف، فتاة في المرسم، من جبل العرب وغيرها) كما شكلت لوحات العاريات التي رسمها أثناء وبعد دراسته الأكاديمية في محترفات كلية الفنون الجميلة في القاهرة التي تخرج منها عام 1946 المدخل لتفهم قيم الضوء المتنقل بشاعرية بصرية توازن ما بين حركة المناخ التصويري الأكاديمي، ورغبات الانفتاح على معطيات اللمسة اللونية العفوية والإشراقة الانطباعية.
