الثورة – أحمد صلال- باريس:
حسيب الزيني.. روائي وإعلامي سوري، حقق وجوده الأدبي بمسايرة ذاته المتمرّدة، فهو قابع بين العُري والخوف- كما يقول، ويتخلّص منهما بفعل الكتابة، وتحرّره من الموروث الذي يرفضه، ليس كلياً، لكنه في النهاية يكتب نفسه، وحينما يعتقد كاتب ما أنه يكتب لنفسه فقط، ليكون حرّاً، تجده مختلفاً، لأنه ذاته، هو يكتب فقط، ولا ينشغل بالنقد.
صحيفة” الثورة” كان لها معه الحوار التالي:
-“أشباح لندن” منجز روائي مغاير قوامه التجريب، والتشكيل وقوة الإحساس، حبذا لو تحدّثنا أكثر عن ذلك.
في الحقيقة، لست ناقداً أدبياً ملماً ومحترفاً كي أدّعي أن روايتي تندرج تحت نوع التجريب والانفلات من القوالب الكلاسيكيّة في البناء الروائي.. لقد ألهمتني أساليب كثيرة في السّرد استخدمها روائيّون كبار، فتعلمت من فواز حداد المشهديّة ووصف المكان، ومن بهاء طاهر الصدق ورشاقة السّرد، والواقعية السحريّة من ماركيز، والبوح والمناجاة من جبران خليل جبران، والرمزيّة والتكثيف من زكريا تامر، والجرأة وقوة الفكرة من صنع الله إبراهيم وغيرهم.
روايتي “أشباح لندن” هي نتاج عقلي وروحي مكثف من تجربتي في الحياة وما واجهته من أهوال عقب اندلاع الثورة السوريّة، وهي أيضاً نتاج فنّي مما تعلّمته تراكمياً وما كتبته من ذاتي وتاريخي الفردي، وابتدعت طريقتي السّردية الخاصة في الحبكة والأحداث وبناء شخصيّات تحوّلت من منظوري إلى أناس حقيقيين من لحم ودم.
التجريب في الأدب هو كسر للقواعد الكلاسيكية، ولكن دون الانجراف إلى كتابة رواية بوهيمية مترهلة لا تسلسل منطقياً فيها.
– رواية “أشباح لندن” تحكي عن مدينة حمص، حين كانت عاصمة الثورة السورية، كيف نجحت في تجسيد المكان مدينة حمص؟
في أشباح لندن لم أركز على رمزيّة المكان مدينة حمص كبطل أسطوري، لم ألجأ إلى أسطرة المدينة كما أسطرت أحلام مستغانمي مدينة قسنطينة مثلاً في روايتها ذاكرة الجسد، فما جرى في حمص وما شهدته من أهوال في بداية الثورة كفيل لأن يكرسها رمزاً عالمياً للحريّة يصعب كسره ويصعب على أي كاتب أن يرقى لتصويره وأسطرته، في مدينة حمص في الرواية هي وظيفة مكانيّة فرشت عليها الشخصيّات التي تتحرّك في فضائها المكاني، ومن هنا وجدت نفسي أركّز على عوالم الشخصيّات، في سؤالك واقع المدينة في زمن الثورة والمظاهرات السلميّة ثم حمل السلاح، صورت بذلك طبيعة العلاقات الإنسانية بين تلك الشخصيات وتحولاتها الكبيرة.
– تسعى هذه الكتابة الواعية لذاتها، لتحطيم مبدأ الإيهام والواقعيّة، وهذا العمل الأدبي قطعة فنيّة لأدب الحرب، واللجوء، كيف عشت الألم السوري؟
ثمّة مقولة تقول: إن الصّراخ يقتل الإبداع، وقد ينطبق ذلك على كتابة سردي الأدبي أو منجزي الروائي، فالراوي لا يمكنه أن يصرخ أو يحتج، لأنه إذا تورّط بذلك فإن روايته ستقع في فخ المباشرة التي هي عدوّة الأدب، وسيكتشف القارئ هذه الثغرة فوراً، ما أقصده هو أنني صرخت كثيراً في وجه نظام دموي لا يرحم وأعلنت احتجاجي على أفعاله الوحشيّة لكن على لسان شخصيّات الرواية، فمنها الثائر والمعارض والمهزوم والطفل والأخت والأم والوالد ومشروع شهيد.
– بعد مجموعتك القصصيّة الأولى “تفاصيل لا تعني أحداً” الحائزة على جائزة “المزرعة” الأدبية عام 2010، حدّثني عن إرهاصات البدايات..
شرف كبير لي أن أنال تلك الجائزة في فن القصّة القصيرة في أولى مجموعاتي، وهي كانت من أرفع الجوائز الأدبية في سوريا في تلك الفترة، وقد نافست قصاصين معروفين حينها، ولكن لم أستثمر بهذا الإنجاز كما يفعل آخرون، ولم أروّج لمجموعتي بالشكل الأمثل، وساعد في هذا كله البيئة الثقافية الفاسدة في زمن الأسد، وأذكر جيداً كيف منع موقع إلكتروني شهير نشر حوار لي عن الجائزة أجرته صحفيّة تعمل لديهم، وفسّرت ذلك التجاهل بأسباب طائفية، أو لأنني لست محسوباً على السلطة ولا أنتمي إلى ثلّة الكتّاب المتسلّقين والمتملّقين، لم أواصل مسيرتي في الكتابة بسبب انشغالي في مهنة الصحافة.
– مجموعتك القصصيّة “دوبامين” أحد إفرازات الخلايا العصبيّة المحفّزة – أراد الكاتب من خلال قصصها التسع أن يسرد واقع العالم الجديد للّاجئ السوري، كيف استطعت الوصول بسهولة إلى القارئ؟
كل من قرأ قصص “دوبامين” فهمها بطريقته ولكن كنت سعيداً أن هناك إجماعاً تاماً على نجاح تلك التجربة، فما يميز مجموعتي القصصية “دوبامين” هي أن القصص التسع المتنوعة في أحداثها بطلها واحد، لذلك يدرجها بعض النقاد تحت نوع “رواية الموزاييك”.
– بين القصّة القصيرة والرواية والصحافة، أين يجد الكاتب والصحفي حسيب الزيني نفسه؟
يجيب ضاحكاً، أنا تائه بينها، وما زلت أبحث عن نفسي فيها، بالمناسبة، من الصعب جداً أن توفّق بين العمل الصحفي والأدبي، فالأول يسطح المعرفة ويلهث خلف الخبر أو الحدث العاجل، في حين أنّ الأدب يحتاج إلى رؤية معمّقة للأحداث والشخصيّات والأماكن والعلاقات الاجتماعيّة، والعمل بمجال الأدب لا يطعم خبزاً، لذلك أنا مستمر في عملي الصحفي والإعلامي وبات عندي خبرة تفوق 18 سنة، أما الكتابة الأدبية فهي مشروعي الخاص وهوايتي الممتعة.
– ما نصيبك من نتاجك الأدبي.. أي حضور السيرة الذاتية في متن وهامش العمل الروائي والقصصي والصحفي؟
لا أجد نفسي في أي شخصيّة رسمتها في أعمالي على الإطلاق، سواء في روايتي أشباح لندن أم في مجموعتي القصصية دوبامين، فأنا أكتب القصة والرواية ولا أجيد كتابة المذكرات الشخصيّة.
من وجهة نظري، الحضور المشروع للكاتب في أعماله هو طريقة السرد والحبكة والأسلوب، ولكن حضور شخصيّة الكاتب في أعماله بطريقة مكشوفة ومباشرة هي عيب فنّي، ومع ذلك هذا لا يمنع من الحضور الخفي في تفاصيل نصّه.
أما بخصوص حضوري في العمل الصحفي فقد عملت صحفيّاً منذ عام 2007 وواجهت مصاعب كثيرة خلال عملي فترة نظام الأسد المخلوع، خصوصاً بعد اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس عام ٢٠١١، وقد قدّمت استقالتي آنذاك من وكالة سانا احتجاجاً على حملات القمع الممنهجة ضد المتظاهرين الذين شاركتهم سراً احتجاجاتهم في الشارع، ورغم أنهم وضعوا اسمي في اللائحة السوداء والممنوعين من السفر إلا أنني كنت في غاية الحذر ألا يكتشفوا أمري.
– هل أصبح الجو العام في سوريا أكثر حريّة للكاتب؟
هذا أكيد، بل وحتمي أيضاً، لقد شاهدنا ذلك التغيير على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يعبّر السوريون عن آرائهم بكل حرية وبلا خوف من الاعتقال، فزمن الصمت وكم الأفواه في سوريا انتهى إلى غير رجعة، ولكن من المبكر تقييم الحريات في مجالي الأدب والفن، فستة أشهر مرت على سقوط النظام البائد ليست كافية لظهور النتاج الأدبي والفني في سوريا، لننتظر ونرَ أدب ما بعد الثورة.
ما أخشاه حالياً هو وقوع بعض الروائيين في فخ الكتابة المباشرة أو الصياغة الخشبية والدوغمائية على الطريقة البعثية، فسقوط النظام ونجاح الثورة لا يعني التهور في صياغة رواية خطابية تمجد المنتصر، على حساب الجودة الفنية والحس الأدبي الراقي.
– هل استطاع النقد أن يضع تجربتك الإبداعيّة في مكانها اللائق كما يجب؟ وهل لدينا أزمة نقدية؟
لا أعتقد أنّ أعمالي أثارت جدلاً كبيراً وهذا لا ينتقص من قيمتها، فرواية المسخ لكافكا والدون كيخوته لثرفانتس لم تشهدا الانتشار وتثيرا الاهتمام العالمي إلا بعد وقت طويل، وبعض الروايات لم تحظَ باهتمام النقّاد إلا بعد وفاة الكاتب!
– ما هي العوامل، والمؤثرات التي جعلت منك كاتباً ومن ساعدك، وما هي طقوس الكتابة لديك؟
في الحقيقة عندما كنت طفلاً كانت أمنيتي أن أكون رساماً، وقد كنت موهوباً في الرسم والخط وحللت في المرتبة الثانية على مستوى محافظة حمص، أما المرتبة الأولى فكانت لابن مدير المدرسة!.
وعندما صرت يافعاً تعلقت بكرة القدم وحلمت أن أكون نجماً عالمياً مثل مارادونا، أما في المرحلة الثانويّة فحلمت أن أصبح صحفياً، وأصبحت كذلك وندمت أيضاً.
لم أحلم أبداً أن أكون قاصاً أو روائياً، رغم تنبؤات مدرّس اللغة العربية في المرحلة الثانويّة، كان يعجب بأسلوبي في كتابة مواضيع التعبير ويقول لي دائماً: إنني سأصبح كاتباً.