الملحق الثقافي- وفاء يونس:
ناقش الدكتور ماهر الطاهر قضية تجديد الفكر القومي العربي بدراسة مهمة ومطولة نشرها في مجلة الهدف الالكترونية ومن من الدراسات نقف عند الخطوط العريضة التي تتعلق بالجانب الثقافي يرى ماهر الطاهرأنه بعد هزيمةِ الخامس من حزيران عام 1967 وما أفرزته من نتائجَ عسكريّةٍ وسياسيّةٍ واجتماعيّةٍ وفكريّة، تم طرح تساؤل تعميقةٍ حولَ الفكر القومي العربي ومستقبله خاصةً بعد حالة المد القومي الذي شهدته الساحة العربية بعد صعود التجربة الناصرية وتأميم قناة السويس وعدوان 1956 على مصر والوحدة السورية المصرية عام 1958.
وتزايدت التساؤلات حول مصير الفكر القومي العربي بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد و أوسلو ووادي عربة وبلغت هذه التساؤلات والأسئلة ذروتها بعد احتلال العراق عام 2003 وبعد ما سمي بالربيع العربي عام 2011 الذي كان من نتائجه تدمير عدد من البلدان العربية بمشاركة من بعض الأنظمة العربية مما جعل البعض يروج لمقولة هل آن الأوان للقول وداعاً لشعار الوحدة العربيّة ووداعاً للفكرة القوميّة ووداعاً لوجود أمة عربيّة واحدة، وبات البعض يعيش حالة من الإرباك والتشتت الفكري ويطرح تساؤلات جادة حول الواقع العربي والفكر القومي ومستقبل الأمة العربية ومستقبل أجيالها.
تبلور الفكر القومي العربي المعاصر مع تصاعد نضال الشعب العربي ضد الاستبداد العثماني والتوسع الاستعماري الأوروبي وضد الغزوة الصهيونية الاستيطانية في فلسطين، وأصبح هذا الفكر حقيقة موضوعية تترسخ معالمها وتنمو مقوماتها من خلال النضال العربي من أجل التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والوحدة. تعاظمت قوة الحركة القومية العربية مع نهاية الحرب العالمية الثانية وأفلحت في تحقيق الاستقلال السياسي لمعظم البلدان العربية، كما تعاظمت مكانة حركة التحرر الوطني في المرحلة الناصرية، وشهدت المنطقة العربية حالة مد قومي عارم توّج بوحدة مصر و سورية عام ١٩٥٨ ممـا أقلق الدوائر الامبريالية والصهيونية التي كانت تعد العدة وتتربص الفرصة المناسبة لتطويق عبد الناصر موجهة ضربتها الكبرى في عدوان حزيران ١٩٦٧ الذي كشف عجز وأمراض الواقع العربي ومشكلاته الخطيرة.
هذا العدوان أحدث زلزالاً هائلاً في المنطقة العربية وترتب عليه سلسلة من الانهيارات المتتالية التي عبرت بوضوح عن مظاهر أزمة عميقة وشاملة سياسية. واقتصادية واجتماعية يعيشها الوطن العربي كان من أبرز نتائجها وتجلياتها إفراز اتفاقيات كامب ديفيد واتفاق غزة أريحا والمعاهدة الملكية الهاشمية الاسرائيلية إضافة لحروب وصراعات داخلية عربية – عربية لا زالت قائمة ستضع العرب في حال استمرارها على هامش التاريخ.
في مثل هذه المنعطفات التاريخية الكبرى وفي مراحل الأزمة والتراجع تشعر الأمم والمجتمعات بحاجتها إلى المراجعة وتأكيد الهوية واستخلاص الدروس تستذكر تاريخها وحضارتها وثقافتها وتراثها للدفاع عن حاضرها ومستقبلها. الهجوم الامبريالي الصهيوني الشامل لا يستهدف السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية على مقدرات العرب فحسب، بل يسعى إلى تأكيد انتصاره الايديولوجي ومحاربة وتشويه وتهديم كلّ فكر مناهض له. والفكر القومي العربي كان مناهضاً للاستعمار ولا يزال وإن قلّت فاعليته بسبب المأزق الذي يعيشه. فلا شك أن هذا الفكر تعرض لضربات شديدة ويعاني أزمة بسبب عدم قدرته على تجسيد الشعارات والأهداف الكبرى التي طرحها. ولكن لا شك كذلك ورغم الأزمة، فإن الفكر القومي يستند إلى أسس موضوعية مرتبطة بمصالح الشعب العربي ومستقبله يستند إلى أسس راسخة لا يمكن تجاوزها:
وحدة اللغة والتاريخ والجغرافيا والثقافة والحضارة والمصير المشترك والمخاطر المحدقة. وهذه الأسس وحدت العرب عندما توفر العامل الذاتي ولكن عندما كان الخلل يصيب هذا العامل فإن الصورة تختلف تماماً ويذكرنا التاريخ العربي بأنه لم تكن هناك ديمومة لما يمكن أن يسمى :(حالة وحدة، أو حالة تجزئة، فالشواهد التاريخية تؤكد هذا المنحى. فليس صحيحاً أن الوطن العربي كما نعرفه اليوم ظل في حالة وحدة شاملة معظم تاريخه، كذلك لم يبق مفتتاً ومجزءاً طوال تاريخه. بل إن التوحد كعملية مجتمعية سياسية كان يمثل اتجاهاً تاريخياً مستمراً وكان التفتت أيضاً كعملية مجتمعية سياسية يمثل اتجاهاً تاريخياً مضاداً، والعمليتان سادتا التاريخ العربي من خلال جدلية مستمرة. وأهم من ذلك بالنسبة إلى المستقبل هو التأكيد على أن عوامل التوحد موجودة بالقوة نفسها التي توجد بها عوامل التفتت في التجزئة الظاهرة في الوقت الحاضر.
إن القول بأزمة وتراجع الفكر القومي لا يعني سقوط مفاهيمه ومنطلقاته الأساسية. فمقولاته الأساسية حول الوحدة والتحرر والاستقلال الاقتصادي والاجتماعي وتحرير فلسطين لا زالت تشكل محور وجوهر طموحات وتطلعات الجماهير العربية. وتشكل مهمات أساسية كبرى يتوجب التصدي لها كونها ضرورات موضوعية ترتبط بمصالح الشعب العربي وأهدافه. وإن كانت بحاجة إلى التجديد والتطوير الملموس الذي يأخذ بعين الاعتبار تاريخ الفكر القومي العربي وتجاربه الماضية، هذا الفكر الذي يراجع مسيرته ويعيد قراءة تاريخه على ضوء تجارب الماضي ومعطيات الواقع الراهن مما يفتح الطريق أمام بلورة مشروع عربي قومي حضاري يمكن أن يوحد جهود وطاقات مختلف التيارات الفكرية السائدة المناهضة للإمبريالية والصهيونية والرجعية والداعية للتحرر والديمقراطية والعدالة والوحدة.
لقد سادت الفكر القومي العربي المعاصر في مرحلة الخمسينات والستينات نزعة رومانسية وعاطفية، رفعت شعارات كبرى ونبيلة التفت حولها الجماهير العربية. لكن لم يجر التدقيق والدراسة في العناصر والعوامل الأساسية التي يمكن أن تجعل من هذه الشعارات ومن الحركة الجماهيرية الواسعة قوة مادية لتغيير الواقع.
صحيح أن الحركة القومية حققت انجازات ومكتسبات ملموسة لكنها لم تنجح في تحقيق هدفها الأساسي بإنجاز الوحدة.
إن بناء المشروع الحضاري القومي العربي بات يتطلب استخلاص العناصر التي يمكن أن تؤسس لرؤية أكثر وضوحاً ورسوخاً للفكر القومي ارتباطاً بدروس الماضي وتحديات الحاضر والمستقبل التي يفرضها الواقع العالمي والعربي الجديد. فما هي أبرز الاستخلاصات؟
أولاً: الـبـعـد الديمقراطي في الفكر القومي
الفكر القومي لم يعتن ويبلور بشكل واضح طبيعة الدولة القومية وطبيعة العلاقة بين الأقطار وتكوين السلطة والسبل الديمقراطية للوصول إلى الوحدة العربية ولم يربط غالبية رواد الفكر القومي بين الثورة القومية الوحدوية والديمقراطية. وأكثر من ذلك فقد تمحور الفكر القومي حول شعارات استراتيجية بعيدة المدى دون تحديد الطرائق والسبل الواقعية الممكنة لتحقيقها، كان يرى الأهداف البعيدة ولا يرى الوسائل المفضية لها، فقدس الوحدة والعروبة ونسي الواقع وتعقيداته.
ثانياً: البعد الثقافي
لا شك أن التحدي الثقافي الذي يواجه العرب في الظروف الراهنة كبير وخطير خاصة بعد التطورات الهائلة على صعيد الثورة العلمية التكنيكية، حيث نعيش اليوم عصر اختراق الحدود والعقول. وفي ظلّ غياب المشروع الحضاري القومي، فإن المواطن العربي سيكون مهيأ لاستقبال ما يتعرض له من تعبئة إعلامية وثقافية مرتبطة بالهجوم الامبريالي الصهيوني الشامل على المنطقة العربية والهادفة إلى تسميم العقول وتشويه المفاهيم في محاولة لسحق الشخصية والهوية العربية واستبدالها بهوية شرق -أوسطية، حيث وصلت العنجهية والغطرسة الصهيونية إلى حدّ مطالبة شمعون بيريز بانضمام اسرائيل إلى جامعة الدول العربية وتغيير اسم الجامعة، ليصبح جامعة الشرق الأوسط.
هذا الهجوم الشامل والمترابط عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، يتطلب مواجهة شاملة ويكتسب البعد الثقافي في هذا السياق أهمية محورية لأن الجبهة الثقافية تشكل السياج الحامي لوجودنا الحضاري وهويتنا ومستقبل أجيالنا. فمن المعروف أنه في عصور التقدم والازدهار كانت الثقافة العربية تزدهر وتتقدم وفي عصور التخلف والانهيار كانت الثقافة العربية تتخلف وتتدهور شأنها في ذلك شأن كلّ ظاهرة اجتماعية. وفي الظروف الراهنة تشهد الساحة العربية حالة جدل عميقة تطال مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية السائدة حيث ينكفئ البعض ويندفع باتجاه العودة إلى الماضي والتشبث به تحت شعار فشل الفكر القومي والماركسي ويندفع البعض الآخر باتجاه المستقبل وقبول.
التحدي المطروح من جانب ثقافات العصر.
يقول الدكتور عابد الجابري: إن الواقع الفكري الثقافي العربي يعاني من ثنائية حادة بين ما هو تقليدي وما هو عصري على جميع المستويات. ثنائية تزداد تفاقماً لتكرس في المجتمع العربي انشطاراً خطيراً وقطيعة فظة بين القديم التليد والجديد الحديث. تحولت في بعض الأقطار العربية إلى حرب أهلية بين الطرفين أحدهما يرفع شعار الأصالة، وهم الأصوليون بينما يلوح الآخر برأية الحداثة والتجديد.
وهنا يندفع أمامنا سؤال كبير إلا يمكن المواءمة بين الأصالة والتجديد؟ ألا يمكن الاستناد للموروث الحضاري ومجاراة روح العصر؟
لقد وقع المفكرون العرب من مختلف الاتجاهات خلال العقود الماضية بأخطار كبيرة عندما ركزوا على عوامل الخلاف والصراع الفكري ووضعوا أسواراً صينية وخنادق متقابلة تمترس كل طرف وراءها دون رؤية ودراسة ما يطرحه الجانب الآخر.
إن نظرة جديدة ورؤية جديدة لا بدّ أن تتبلور، تنطلق من عناصر اللقاء والتوافق، فلا تعارض بين القومية والإسلام ويمكن للمشروع الحضاري النهضوي العربي أن يستوعب مختلف الاتجاهات الفكرية، إذا أدركت جميعها مستوى التحديات والمخاطر المحيطة، وإذا انطلقت من رؤية علمية منفتحة وغير متعصبة لا تضع أسواراً وقيوداً بين الحفاظ على كل ما هو ايجابي في الموروث الحضاري للأمة العربية وبين متطلبات العصر والمستقبل وأهمية وجود التعددية الفكرية والسياسية وتنوع الآراء والأفكار وتفاعلها السليم.
لقد جهد الاستعمار لمواجهة الدين والاسلام السياسي مع القومية العربية وعمل كل ما يستطيع لاستغلال وتعميق النزاعات الفكرية والسياسية والمذهبية والدينية في المنطقة والرد على ذلك يكون من خلال قيام نوع من التفاهم والتنسيق بين التيارات السياسية حول قضايا وأهداف وطنية وقومية تفرضها التحديات والظروف الراهنة التي تواجه الأمة العربية قضية فلسطين الاستقلال الاقتصادي والتنمية المستقلة عدم التبعية مواجهة التطبيع وثقافة الاختراق. وخطر الصهيونية.
إن انتماء الانسان العربي يتحدد من خلال دوائر عدة في وقت واحد فهو ينتمي إلى قطر عربي بعينه وهذه دائرة أولى. وهو من خلال انتمائه لهذا القطر ينتمي إلى الوطن العربي ككل باعتبار ذلك القطر جزءاً من هذا الوطن القومي وهذه دائرة ثانية. وهو ينتمي في الوقت نفسه إلى الحضارة العربية الإسلامية التي يعيش في ظلها الوطن العربي وهذه دائرة ثالثة. وأخيراً :هو ينتمي إلى الإنسانية جمعاء بمختلف أمم العالم وشعوبها وهذه دائرة مع رابعة وليس هناك من تناقض بين الانتماء لهذه الدوائر معاً، الوطنية منها والقومية والحضارية الإسلامية والإنسانية إن أحد الدروس المستخلصة من تجربة النضال القومي ضرورة تأسيس علاقة سليمة وعلمية مع التراث والبعد الثقافي فلا تعارض بين الاسلام والقومية لأن الإسلام من صلب التراث العربي شرط الفهم السليم للإسلام والقومية.
العدد 1141 – 18-4-2023