الملحق الثقافي- غسان كامل ونوس:
ليس الكلام جديداً عن تأثير الأحداث الكبرى على الأدب وأجناسه؛ شكلاً ومضموناً، في مختلف الآداب العالميّة، ولا غريباً لدينا، وإن كانت التغيّرات عندنا، تتأثّر أيضاً، بتلك التحوّلات الثقافيّة العالميّة؛ وإن بعد حين. ومن المعروف أنّ كتابات تحدّثت، وما تزال تتحدّث، عن الأشكال الأدبيّة والفنّيّة، التي ظهرت في أوروبّا، بتأثير كلّ من الحربين العالميّتين، امتداداً للحداثة وما بعد الحداثة.
وليس ما تشهده منطقتنا منذ أكثر من عقد- بل ربّما من عقدين أو أكثر- قليلاً ولا بسيطاً، ولا يسيراً فهمه، والتعامل معه، وليست انعكاساته المباشرة وغير المباشرة، جليّة تماماً؛ لأنّ الحال المضطربة ما تزال قائمة، إلى ما لا يعرف مداه الزمانيّ والمكانيّ؛ فمجريات الوقائع نفسها، لم تتوقّف، وغير معلومة حدودها وأبعادها، وارتداداتها المتنوّعة؛ لتفاوت شدّاتها، وتعدّد المجالات والمحاور والمصادر والمتلقّين واهتماماتهم ومستوياتهم وشرائحهم، وقربهم من الأحداث أو بعدهم عنها، من دون أن ينفي هذا إمكانيّة مقاربة الأصداء في مجال ما، وتتبّع إيقاعاتها، وعناصرها، واختلافاتها.
ولا شكّ في أنّ الجانب الثقافيّ ميدان متاح للتأثّر، وقابل له ومحتمل؛ وطبيعيّ أنّه لا ينبتّ عن مسائل وعوامل أخرى متعدّدة؛ إذا لم يكن مؤشّراً ودليلاً؛ ومن المفترض أن يكون موجّهاً؛ ولكن هيهات! وإذا كانت التأثيرات المرتقبة؛ فيما أرى، ستكون بطيئة؛ في الجانب العقليّ، الذي يتّصل بآليّات التفكير لدينا؛ قليلة الاعتماد على التحليل، والمحاكمة، والاستنتاج، والمرتبطة بالتقديس، والتلقين، وقلّة المبادرة، وعدم الجرأة، والتبعيّة المبطّنة والمعلنة للنافذين من الجهات والمؤسّسات والجماعات والأفراد، في الداخل والخارج، وانتظار الموافقة أو الإيحاء بها، وتلمّس بوادرها؛ فإنّ الآثار والعلامات، التي ستظهر على ما يتعلّق بهذا الجانب الأساس في البنية الشخصيّة والمجتمعيّة، ستكون شحيحة وباهتة ومحدودة، وفرديّة، أو ستتأخّر؛ لأنّها ستحتاج إلى زمن أطول، إذا ما كانت رهناً بالتفاعلات الحيويّة والتساؤلات والتوقّعات والاحتمالات والدراسات المقارنة الجادّة الموضوعيّة؛ لكنّ هذا غير متوافر- للأسف- كمّاً ونوعاً وشموليّة؛ كما هو كمّ النصوص الأدبيّة- الشعريّة غالباً- قيد المقاربة والمتابعة المرحليّة الضروريّة؛ للوصول إلى سمات واضحة، وعلامات فارقة؛ إن وجدت. ولهذا، فقد يكون التغيّر في الأجناس الأدبيّة؛ بناء ومحتوى؛ ومنها نماذج الشعر الثلاثة المشهورة (العموديّ والتفعيليّ والنثريّ) غير واضح؛ أمّا الجانب الانفعاليّ من المسألة، التي تتكاثر نفثاته، وتتحرّق زفراته، وتتأسّى أنّاته، وتترطّب نهداته بسوائل حارقة شفّافة وقانية، وتتمظهر مشاهده بألوان فاقعة وقاتمة ومغبرّة، فإنّه يسود، وهذا ما يجعل الحال تميل أكثر إلى الشعر التقليديّ مظهراً وصياغات على الأقلّ؛ لأسباب تتّصل بالعادة والاستسلام لما هو معهود ومألوف من عبارات ونَظم، مع الاستسهال والمواكبة والمشاركة والراهنيّة والتفجّع والرثاء، وما يمكن أن يشار إليه بالتأثّر النفسيّ الوجدانيّ اللاواعي ربّما؛ فهذا الجانب الانفعاليّ العاطفيّ، الذي نُشتهر به؛ بدرجة أكبر من الجانب العقلي الواعي؛ إن لم يكن على حسابه، سيكون أكثر استحضاراً واستنفاراً واستثارة؛ بسبب فظاعة ما يجري، وقوّة صدماته، وكثافة ترامحه، وشراسة المواجهات، والضجيج الذي يسبّبه وقعه المباشر، وتردّداته في الإعلام بأنواعه، والمرويّات بأشكالها، وشدّة تأثيره، وشموليّة هذا التأثير، مع التناقضات، التي تفرزها الأحداث والمواقف، حتّى على الشخص نفسه، ويكون كلّ هذا دافعاً للإسهام الشعوريّ الوجدانيّ في فعاليّاتها ومخرجاتها، وللتفاعل مع تفصيلاتها ومفرداتها، والتحسّس بآثار شظاياها الحادّة الكثيفة المتسابقة للحزّ والقلقلة والتوتير والتأذّي. وكيلا تفهم المسألة خطأ، وتذهب الأفكار في منحى التقويم السلبيّ أو الإيجابيّ (أسود أو أبيض)؛ مع أنّ هذا غير مقصود، وغير ممكن عمليّاً، وغير مطلوب! فإنّ ما ذكرنا في محاولة القراءة آنفاً، ليس انتقاداً أو مساءلة، أو إساءة؛ فجميعنا يعرف بأنّ اللّاوعي عملاً مهمّاً في الإبداع؛ إن لم يكن له العمل الأهمّ. ومن أكثر ما يعبّر عن هذا الجانب، الذي يسمنا؛ كي لا نقول: يميّزنا، الكلام العفويّ والدارج وغير المتكلّف، وهو الذي يخاطب الحواس، ويعبّر عن حساسيّتها وقدراتها، ويراود الملَكات عن صمتها وحيادها، ويساير المشاعر والعواطف الجيّاشة؛ تماشياً مع ضراوة الضربات والوخزات والحزّات والانهدامات، وسعة الافتراق بين الشعارات والمبادئ وبين الممارسات، واختلاف التفسيرات والتأويلات والأخبار والأصداء، وانسجاماً مع استفحال القلق والخوف والحيرة والشكّ، وتشبّعاً بالحزن والأسى، وتساوقاً مع مرارة الفقد العزيز المتكاثف، وقلّة الأمل، والقنوط، والتشكيك أو الإيمان ربّما بجدوى الإيمان، والصبر، والصمود، والتضحية، والوصول، بعد فصول وفصول، إلى ما يشبه الخلاص، أو ما يبشّر به، أو يدعو إليه. وهذا كلّه يترك المجال مفتوحاً للكلام الخالي من التعقيد في اللفظ والمعنى، والذي لا يحتاج إلى تفكير عقلي، ولا يتيحه التسارع المطّرد، ولا تيسّره الظروف القارسة، ولا المستجدّات المتلاحقة، والحاجات الضاغطة، ولا وقت، ولا قدرة عليه، ولا رغبة فيه ربّما.
ولهذا يتمّ اللجوء إلى الشعر العامّي المحكيّ، والاستعانة بأشكاله، ولهجاته، ومفرداته، وتنويعاته، وتلويناته؛ وليس في هذا مثلبة؛ فهو موجود، وفيه أصوات وفصول وألحان تلامس الشغاف، وتهزّ أوتار النفس، فتستذكر، وتحنّ، وتتأسّى، ولا تلوم الأشخاص ولا تعاتب الأحبّة؛ بل الظروف والأحوال والأقدار، وتتمنّى، وتأمل، ولا تبشّر! لكنّ المشكلة تكمن في انتشار هذا الشكل، أو النموذج، على نطاق واسع، وفي مناسبات كثيرة، وعلى المنابر، وفي الملتقيات والمهرجانات والنشاطات وفي مختلف المناطق والأحياز. وقد ظهرت تجمّعات «ثقافيّة!» عديدة بمسمّيات أدبيّة طنّانة، ومواقع وصفحات برّاقة، تجوب المدن والقرى؛ ويلاحظ أن هذا «الشعر الدارج»، غلب على النماذج الشعريّة الأخرى- من دون أن نعفي هذه النماذج الأخرى من تأثّرات مهمّة بما ذكرناه؛ إلى جهة السطحيّة والمباشرة وقلّة التعمّق وندرة السبر والاستكشاف، ووهن الرؤيا، والاكتفاء بالرؤية والملاحظة والتوصيف.
ومن الإشكاليّات المتّصلة بهذا أيضاً، ما يتعلّق بإهمال الاجتراح والانبثاق والانغماس في الحال، وشيوع الافتعال، وتوسّل الانفعال؛ من خلال عبارات وكلمات ومسمّيات قديمة! ولا تتوقّف هذه الإشكاليّات على النصوص التي تتناول الحالات والوقائع والأحداث؛ بل يحاول هذا النمط استظرافاً، وتلويناً خارجيّاً، وطرافة سمجة، أن يدّعي الموضوعات الغزليّة؛ للخروج من حالات البؤس والحزن والحصار والغلاء؛ كما يصرّح أصحابه بهذا؛ وليتهم لا يفعلون! إذ لا تخرج أغلبيّة نصوصهم عمّا قلناه من استدعاء المثيرات العاطفيّة والمشاعر الغريزيّة بطرق حسّيّة فيها كثير من الإسفاف، وغالباً لا تأتي؛ كما أنّ من الممكن ملاحظة فصام بين هؤلاء الأشخاص الهائمين، والآخرين المفجوعين؛ وقد يكون فاقداً أيضاً؛ بل إنّ واحدهم يمكن أن ينقلك من توسّل الدمعة، إلى تسوّل الضحك المجّاني في الآن نفسه. ولست أدعو هنا؛ إطلاقاً، إلى عدم التطرّق إلى موضوعات أخرى غير الأحداث والأحوال المؤسية؛ فقد قلت أكثر من مرّة؛ وهذه قناعتي؛ بأنّك حين تكتب، أو تقول نصّاً مميّزاً فنّيّاً في أيّ موضوع؛ حتّى إن كان غزليّاً؛ فأنت تخدم قضيّة الحقّ والعدالة؛ بالسموّ بهذه المشاعر الطبيعيّة إلى مرتبتها الإنسانيّة العليا، وبالذائقة الخاصّة والعامّة، إلى درجة الاحترام والتقدير.
إنّها- في ما أرى- موجات متجدّدة في السياق الشعريّ، وربّما الأدبيّ والفنّي؛ والثقافيّ على العموم، تعبّر عن فقر وضحالة وخيبة وشكّ وعدم ثقة بالنفس والآخر، وقلّة كوى الأمل لدى المجموع؛ القائلين والمتلقّين، الذين يستسيغون مثل هذا، ويتماهون معه، ويطالبون به!
إن استمراء هذه العمليّة المستمرّة، وكثافتها والترويج لها- هنا أو هناك؛ في هذه المنطقة، والدولة، أو تلك، ومنح الألقاب والجوائز للقائمين بها وعليها؛ وإن كانت خلّبيّة، يجعل منها ظاهرة، تستحقّ الإشارة الجادّة إليها؛ كما ندّعي أنّنا فعلنا هنا، وتستدعي دراسة وتقويماً وبحثاً عن الأسباب والعوامل المساعدة، والشرائح، التي تمتهنها، والجهات، التي تدعمها، وتسهّل لها العبور والتعويم والتفاقم.
العدد 1141 – 18-4-2023