ينقضي شهر رمضان، وتنطفئ فوانيسه التي أضيئت على مدار شهر كامل، دون أن ينطفئ وهجها في القلوب.. ويأتي عيد الفطر ليحتفل الجميع به كما في كل عام بعد أيام مضت في الصيام، والتضرع إلى الله عسى أن يتقبل الله تلك الطاعات، والعبادات، وصالح الأعمال، ويجعل من العيد فرحاً، وسلاماً، وأماناً.. وتكتظ المساجد، والساحات العامة بصلاة العيد، ليتبادل الناس من بعدها التهاني، والزيارات بين الأهل، والأصدقاء، والجيران، كجزءٍ مهم من الاحتفالات، وهي تعزز في الوقت ذاته الروابط الاجتماعية، والعائلية.
طقوس تقليدية للأعياد بديمومة تكرارها في مواعيدها تعكسها الثقافات لدى الشعوب في احتفالها بهذه المواسم الدينية، وتراث غني تتناقله الأجيال جيلاً بعد آخر، وتحرص عليه لأنه يعبّر عنها، ويصف هويتها.. ولا فروق كبيرة بين البلدان العربية في طقوس احتفالها، بل تكاد تكون واحدة إلا من فروق بسيطة.
وللعيد أجواؤه الروحية التي تتجلى في التآزر، والتضامن، كما التعاون بين فئات المجتمع كافة فتتوطد العلاقات، وتتعزز روابط التآخي، والإيثار عندما ينال مَنْ رقت أحواله العطف، والرأفة، والمساعدة ممن يقدر عليها.
ولما كانت طقوس الأعياد على اختلافها، والتقاليد المرتبطة بها تشكل جزءاً من ثقافة الأمم، والشعوب،ففي زمن ذوبان الثقافات بين بعضها بعضاً يصبح للحفاظ على التراث، وثقافة الهوية أهميتها الكبيرة.. فللأعياد الدينية تأثيرها، كما بصمتها الواضحة على الثقافة المحلية لأنها تعكس القيم الإيجابية، والإنسانية السليمة الخالية من أي شوائب تعكرها، والتي هي جوهر العلاقات الاجتماعية، والعائلية الصحيحة.
إلا أن هذه التقاليد المتوارثة والتي ترتبط بالأصالة، والتاريخ، والثقافة المحلية يمكن لها أن تتطور، وتتجدد مع كل ثوب جديد للعيد، وقد يكون ثوباً وطنياً ينبئ عن الانتماء، وكأنه التوثيق لهوية المكان وثقافة أهله، وتتجدد معها ذكريات أعياد سبقت دخلت معها الفرحة إلى قلوب الكبار قبل الصغار الذين هم أكثر مَنْ يسعدون بالعيد لأنهم يحتفلون به بشتى الأشكال، والألوان من التسليات. وتجدد التقاليد هذا يعني عدم جمودها، أو ثباتها على ما هي عليه منذ القِدم، بل إن نسغاً جديداً يمكن له أن يسري في عروق شجرتها الوارفة حسبما يقتضيه تطور العصر، وما يتيحه من وسائل أكثر للبهجة والفرح، فيعززها، ويجعلها أقرب إلى القلوب، وهي تحافظ في الوقت نفسه على الروابط بين المجتمعات بما تمثله من قيم التراث، ومعايير للتضامن بين أفراد المجتمع الواحد، والحفاظ على العادات الشعبية، والذاكرة الثقافية في ظل التغيرات الاجتماعية.
لقد أثرت التقنيات بشكل كبير في تحديث احتفالات الأعياد، وأضافت لها بعداً جديداً وذلك بتوفير وسائل حديثة لنشر القيم الدينية، والثقافية، وللاحتفال والتواصل والتفاعل مع الآخرين، وأذكر أنني مع بداية الألفية كتبت قصة للأطفال بعنوان (عشاء على الهواء) توقعت فيها أن تخدم التقنيات احتفالات الأعياد فتصبح احتفالاتنا الرقمية كبث حي على الهواء مباشرة يتشارك فيه الأهل، والأصدقاء بين بعضهم بعضاً، وهو ما أصبح واقعاً محققاً يهزم مسافات الفراق ليكون اللقاء رغم البعاد. وها نحن من خلال الفضائيات نتعرف على تقاليد جديدة لدول شقيقة قد نقتبس منها أجمل ما فيها.
ويظل الحفاظ على التراث، والهوية في احتفالاتنا، وأعيادنا ما يبعث على الإحساس بالفخر، ويعزز الانتماء، ويرسم صورة واضحة لتاريخ الشعوب، كما أن ذلك يساهم في صياغة المستقبل لأنه الروح الحقيقية التي تميز شخصية كل شعب في مسيرتها الحضارية، ولا تجعله يذوب في بوتقة العولمة التي تبتلع الثقافات.
التالي