في معرض عمليات البحث والتنقيب عن وسائل محتملة يمكن من خلالها تحسين الظروف والواقع المعيشي الذي وصلنا إليه – بالتوازي مع إجراءات ووعود حكومية، شبيهة بمن يتلقى دعوة في منامه على سفرةٍ عامرة بالمأكولات والمشروبات، فيأكل ويشرب وينتشي، وما أن يستفيق حتى يجد نفسه مُتضوّراً من الجوع..- تعود بنا الذاكرة إلى بدايات تسعينيات القرن الماضي عند انتشار ظاهرة مالية واستثمارية جديدة من نوعها، صحيح أنها كانت خارج السياق القانوني ولكنها لم تكن ممنوعة ولا مسموحة، غير أنها أعجبت مئات آلاف الأفراد واندفعوا إليها بشكل لافت، وأحدثت عندهم تغييرات مالية كبيرة ساهمت بزيادة دخلهم وتحسين معيشتهم، وأقصد بذلك ظاهرة (جامعي الأموال) التي انتشرت في العديد من المحافظات ولاسيما في حلب ودمشق، ثم انتهت تراجيدياً بالتزامن مع صدور قانون جمع الأموال رقم ( 8 ) لعام 1994م، الذي جاء وقعه عليها أشبه بالسكتة القلبية التي أنهت كل شيء، إلا أن بعض آثارها ما يزال عالقاً إلى اليوم.
تلك الظاهرة ساهمت بشكلٍ غير مباشر بإعطاء قوة لليرة السورية ربما نجمت عن زيادة الطلب عليها نتيجة قيام عدد كبير من المواطنين بتقديم مدخراتهم إلى جامعي الأموال، وسمعنا أن الكثيرين باعوا ما يكتنزونه من الذهب والقطع الأجنبي، وعقارات أحياناً كي يشتركوا بهذه العملية لقاء عوائد استثمارية شهرية مجزية.. وأحياناً أسبوعية، وكانت أسواق حلب ودمشق تنتعش بشكلٍ ملحوظ عند توزيع العوائد، حيث يتجه المشاركون إلى الأسواق لشراء المزيد من المنتجات والسلع.
بعض المستثمرين الذين قاموا بجمع الأموال فشلوا بالاستمرار في هذه العملية، سواء لقلة خبرة.. أم لقلة ذمّة، فمنهم من أفلس ومنهم من تصنّع الإفلاس ليفرّ بودائع الناس، هنا تدخّلت الدولة -وكان تدخلاً ضرورياً حفاظاً على حقوق المودعين- وكان القانون رقم ( 8 ) الذي انسحب على الجميع فذهب الصالح بالطالح، ولم يشفع للمستثمرين الجادين في هذه العملية جديتهم في العمل وفي إقامة استثمارات حقيقية وتنموية رابحة كانت كفيلة بالقدرة على الاستمرار والانتقال من حسنٍ إلى أحسن، ولعلّ هذه من الثغرات التي كان يمكن للقانون أن يتلافاها آنذاك ويتعاطى معها بمرونة تسهم في جرعة دعمٍ نفسية أو معنوية للجامعين الجادين، وللمودعين.
ما علينا.. فما حصل قد حصل، ولكن يا ترى لو حاولنا إنعاش تلك التجربة، وضبطها بشكلٍ جيد وتحت إشراف الدولة بطريقة ما، والترخيص لها وتعريتها من الشوائب، بما يضمن حسن سيرها واستثماراتها، وسلامة الودائع، أفلا نكون قد فتحنا باباً لحالة انتعاشٍ واسعة النطاق تسهم في زيادة الاستثمارات المختلفة الأصناف، وفي تحسين القوة الشرائية لليرة، ورفع مستوى الدخل وبالتالي تحسين الوضع المعيشي..؟
إن الحلول التي أتى عليها القانون ( 8 ) لم تكن مجدية كثيراً تبعاً للآثار الراشحة على الأرض، سواء بتحويل استثمارات جامعي الأموال إلى شركات مساهمة مغفلة أم شركات تضامن أو محاصة أو توصية أو شركات محدودة المسؤولية، أو بالتخلي عن جمع الأموال.. وما إلى ذلك، فهذا النمط من الاستثمار كان يحتاج على ما يبدو إلى حل مختلف، وإلى ابتكارٍ قانوني جديد يتناغم مع الحالة ويضمن استمراريتها بوجهها الإيجابي، أي بشكلٍ يجعلنا أمام حقيقة ليرة سورية قوية، ودخل مرتفع، وحالة من الانتعاش الاقتصادي والتجاري.
لديّ شبه يقين أن الحكومة لن تستجيب لمثل هذا الطرح الذي قد تعتبره ساذجاً بعد تلك التجربة المريرة مع جامعي الأموال، وقد لا تُعيره أي اهتمامٍ أصلاً، لا بأس.. فلتأتِ لنا ببديل .. حتى لا يقفز بنا الشك ونحسبها كالبخيل الذي استضاف ( أبو النواس ) فقال فيه:
أبو نوح دخلت عليه يوماً * فغداني برائحة الطعام
وقدَّم بيننا لحماً سميناً * أكلناه على طبق الكلام
فلما أن رفعت يدي سقاني * كؤوساً خمرها ريح المدام
فكان كمن سقى الظمآن آلاً * وكنت كمن تغدى في المنام.
السابق