منذ نيله الاستقلال عن المستعمر البريطاني، وفك عرى الروابط مع مصر لم يشهد السودان استقراراً سياسياً واجتماعياً في فترات محدودة لا تتعدى السنين، فما كان يخرج من انقلاب حتى يدخل في آخر منذ إبراهيم عبود وإسماعيل الأزهري وجعفر النميري وسوار الذهب وحسن البشير وصولاً للحكومة الحالية، وربما كانت فترة حكم سوار الذهب استثناءً، حيث سلم الحكم لحكومة توافقية دون تمسك منه بالسلطة على غير عادة الانقلابيين في دول العالم الثالث، وترافق عدم استقرار السودان سياسياً صراعات داخلية شهدها جنوب السودان الراغب في الانفصال عن الوطن الأم، وهو ما تحقق عبر توافق سياسي، ومع ذلك كله ظل السودان يشهد صراعات داخلية ولاسيما في مناطق دارفور وكردفان وبعض الولايات الغربية ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من السودانيين، واستدعى تدخل قوى خارجية ولاسيما استخدمت ووظفت فيها المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت حكماً يقضي بإلقاء القبض على الرئيس السوداني آنذاك عمر حسن البشير بتهمة ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، وهو حكم لم ينفذ وبقي وسيلة ضغط عليه لابتزازه سياسياً ومع سقوط حكم البشير استبشر السودانيون خيراً بالوصول إلى حكم مدني تتوافق من خلاله قوى التغيير مع الجيش على حكومة انتقالية تعقبها عملية سياسية تتأسس على الحوار الوطني الداخلي دون تدخل خارجي، ولكن مع مرور أكثر من خمس سنوات لم يتحقق ذلك ما جعل السودان يشهد حالة من التجاذبات الداخلية والخارجية والصراعات البينية لم ترتق إلى مستوى المواجهة العسكرية بين أطراف النزاع، ولكن اللافت في الأمر بروز العامل الإسرائيلي والأميركي والبنك الدولي على خط النزاع القائم، حيث شهد السودان عملية تطبيع مع الكيان الصهيوني لا مبرر لها ولا تنسجم مع الإرادة الوطنية السودانية وهوية السودان السياسية، من هنا كان لابد من مراجعة عميقة لقراءة تطور الأحداث في السودان ومآلاتها والدور الصهيوني في إحداثياتها، وهنا لابد من الوقوف أمام تفجر الأوضاع في السودان خلال الأسابيع الماضية، واتخاذها طابع العنف والاصطفاف العسكري وسيلان الدم السوداني بأيدي أبنائه، وهو ما كان خارج كل التوقعات، والسؤال الآن هل توقيت انطلاق شرارة العنف جاء مصادفة أم إن الأمر مرتبط بالتطورات التي حصلت في البيئة الإقليمية، ولم ترق للعدو الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية وهو الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية وتداعياته المحتملة على المنطقة العربية والإقليم عموماً وإمكانية الانتقال من المواجهة والعسكرة والصراع إلى التوافق والشراكة الاقتصادية والتنموية ومد جسور التعاون بين شعوبها وطي حقبة الصراعات والمناكفات والاستقطابات بأشكالها المختلقة، الأمر الذي دفع ثمنه الجميع، وكان المستفيد الوحيد منه الكيان الصهيوني وشركات السلاح ومجمعات الاقتصاد في الغرب الذي كان المستفيد الأكبر من اندلاع الصراعات في المنطقة إعمالاً للفكرة الأميركية المسماة الفوضى الخلاقة لبناء شرق أوسط جديد صهيوني أميركي الملامح والهوية يتحول فيه العرب إلى بيادق في لعبة الأمم، وتتحول فيه دولة الكيان من عدو إلى صديق أو حليف لمواجهة عدو مزعوم جرى تصنيعه لجهة قلب معادلات الصراع في المنطقة وإدخالها في صراعات بينية عبر ثنائيات قومية أو عرقية أو دينية ومذهبية، وإغلاق ملف الصراع الأساسي بين العرب والكيان الصهيوني.
إن تفجير الوضع في السودان خلط جميع الأوراق وتحول انتباه الجميع إلى ما يجري فيه، فبعد أن كانت الأنظار متوجهة نحو تصحيح العلاقة بين الدول العربية وسورية، وكذلك تطور العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية وما يرافقه من تبريد في ساحات المواجهة بين الأطراف والدول المشار إليها سواء في اليمن أم سورية والعراق ولبنان وتصاعد زخم المقاومة في فلسطين المحتلة وحالة التفاؤل التي برزت وتصاعدت في المنطقة جاء الحدث السوداني ليدفع باتجاه العسكرة والعنف ترافق مع مواقف قد تصبح متباينة بين دول المنطقة لما يصيبها من تداعيات ما يجري في السودان ومآلاته ولاسيما دول الجوار السوداني ودول البحر الأحمر، وكذلك العلاقة المتميزة بين السودان وجمهورية الصين الشعبية في ظل حديث عن تسارع العمل على مشروع الحزام والطريق الذي يشكل نافذة أمل لشعوب المنطقة وخاصة القارة الإفريقية، حيث يعد السودان والصومال جسر المشروع المذكور الواصل إليها ما يعني أن عدم الاستقرار في السودان سيشكل عامل تعطيل وتأخير لذلك المشروع الحيوي وهو المشروع الذي عارضته أميركا والغرب بشكل واضح وجلي وعملا على تعطيله وفرملته.
إن ما يشهده السودان من تطورات يتطلب تدخلاً إيجابياً من دول الجوار والدول العربية والإفريقية المعنية، وكذلك من كل من الصين وروسيا بحكم تأثيرها وتأثرها فيما يجري وتداعياته على الأمن القومي العربي الإفريقي ومصالح دول المنطقة وصولاً لوقف دوامة العنف والركون إلى طاولة حوار وطني داخلي سوداني يغلب مصالح الشعب السوداني على ما عداها ويوصل إلى حكومة وطنية توافقية تقوم على فكرة الشراكة في بناء السودان والحفاظ على سيادته وهويته وأن يكون عنصر بناء واستقرار في المنطقة لا بؤرة نزاعات وصراعات المتضرر منها الشعب السوداني وجيرانه والمستفيد الوحيد هو الكيان الصهيوني وحلفائه وأدواته.