مرت في 30 نيسان 2023 الذكرى السنوية الخامسة والعشرون لرحيل الشاعر الدمشقي الكبير نزار قباني، وفي هذه المناسبة أتوقف عند ناحية تتكرر كثيراً في سياق الحديث عن شعره وكتاباته، وجوهرها أنه استشرف الآتي، وكان سباقاً في معرفة أدق التفاصيل التي وقعت بعد رحيله بسنوات، وبأن بعض قصائده السياسية بدت وكأنها وليدة الساعة.
وفي الواقع ـ ومن وجهة نظري ـ هو لم يستشف ولم يستشرف ولم يتنبأ، أبعد مما هو مقروء في الواقع العربي الراهن، الذي يحمل في ذاته دلالات مستقبله.
كل ما في الأمر أن نزار قباني كان أوضح وأفصح وأكثر جرأة من الآخرين. ومن هذا المنطلق لم يكن شاعر المرأة والياسمين الدمشقي فحسب، وإنما كان أيضاً شاعر التمزق العربي بامتياز، ولو عاش إلى يومنا هذا لما استطاع أن يقول، أكثر مما قاله عن الواقع العربي الرمادي إلى أقصى درجات السواد المطلق والكلي.
وخلال عودتي إلى أرشيفي الورقي عثرت على آخر قصيدة كتبها بعنوان: (رسالة من تحت التراب) وأوصى ألا تنشر إلا بعد رحيله، على أن تؤرخ بتاريخ وفاته، ولقد جاء فيها:
من عالمي الجميل.. أريد أن أقول للعرب .. الموت خلف بابكم .. الموت في أحضانكم .. الموت يوغل في دمائكم .. وأنتم تتفرجون .. وترقصون .. وتلعبون .. وتعبدون أبا لهب .. وأنتم تتفرجون وفي أحسن الأحوال تلقون الخطب .. أمضيت عمري أستثير سيوفكم .. واخجلتاه .. سيوفكم صارت من خشب .. فالعار يغسلكم .. من رأسكم حتى الحذاء ..
وهذا يعني أن الواقع العربي الذي شخّصه نزار قباني خلال حياته، واستمر في الانحدار بعد رحيله، وواصل خطه التنازلي حتى وقتنا الراهن، كان واضحاً حتى في ظلمة دهاليزه، وهو ليس بحاجة إلى من عنده قدرة على الاستشعار عن بعد، أو قدرة على استشراف الآتي، وأكثر من ذلك ليس بحاجة إلى منظرين ومحللين لا يرون أبعد من أنوفهم، ولاسيما أن المآسي تتجدد والأخطاء تتكرر دون عبر، أو دون قدرة على الاستفادة من دروس الماضي، وهنا يلتقي نزار قباني مع عبارة قالها الكاتب والشاعر الراحل محمد الماغوط ومفادها ط: “ما من جريمة كاملة في هذا العصر، سوى أن يولد الإنسان عربياً”.