الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
يخال إليك وأنت تستعرض عناوين الكتب الفرنسية، ضمن استعدادات فرنسا للموسم الأدبي الشتوي، الطقس الذي انفردت به فرنسا عن باقي جاراتها الأوروبيات أنك في حديقة حيوانات. وتتوسع تلك القائمة لتشمل الحيوانات البرية والداجنة أو المنزلية. وتلك ظاهرة بدأت تتزايد بشكل كبير في الآونة الأخيرة في عالم الأدب، أي كعناوين كتب وكموضوع يهتم بالحيوان.
هنا كتاب بعنوان «الدبة الكبيرة» الصادرعن دار ستوك للكاتبة مايليس ادهيمر، وفيه تتناول قضية الصيد الجائر. أما الكاتبة ايزابيل سورانت فتتحدث في كتابها «تعليمات» عن تربية الخنازير. والكاتبة سورانت تتعاون مع الكاتبة كلارا دوبونت مونود على إصدار مجموعة « Bestial» عن الحيوانات، وشرعت في الصدور منذ ربيع العام المنصرم عن دار لاتس، وقد صدر حالياً عن الدار كتاب «أن تصبح لبوة» للكاتبة وندي ديلورم. في أعقاب صدور كتاب «أخبر الأغنام» لمارك دوغان. بينما أفردت إصدارات دار ريفاج مكان الصدارة للحيوان من خلال سلسلة كتب « ثناء- Eloge -» حيث وعقب صدور «ثناء للأرنب» وبعده «ثناء الكلب الألماني تيكل» يصدر الآن» ثناء الحوت» للكاتبة كامي برونل. وكان قد صدر سابقاً رواية Ecatepec والرواية تتحدث عن الدفاع عن قضية الحيوان في المكسيك. الأمر الذي يقودنا إلى استنتاج أن قضية النشر بعيدة عن حصر نفسها ضمن عناوين موضوعية.
من المؤكد أن الحيوانات ليست دخيلة حديثاً على الأدب. إلا أن دورها كان لفترة طويلة رمزياً في القصص، وبقي الراوي الإنسان في المقدمة. كان يبرز الإعجاب بهم أو تعقبهم ومطاردتهم. ونادراً ما كان يعطى الاعتبار لهم لذاتهم، بل كانوا يتخذونهم شخوصاً، ويسردوا على ألسنتهم العديد من الحكايات الأدبية الشعبية، أو ربما يدينون بها أفعالاً بشرية. فيها يتمكن المؤلف من التعبير عن المتاح وغير المتاح.
أما الذي تغير مؤخراً فهو الرغبة في إعطاء الحيوان صوتاً حقيقياً، يضفون عليه أبعاداً اجتماعية وسياسية في نظر المدافعين عن الحيوانات. ويعلق المؤرخ الفرنسي ميشيل باستوريو، مؤلف العديد من الكتب حول موضوع الحيوان وكان آخرها (الغراب) في حديثه لصحيفة Le Monde des livres « منذ خمسين عاماً، كان الحيوان موضوعاً مثيراً للسخرية في نظر التاريخ والعلوم الإنسانية، بينما أصبح هذا الموضوع حالياً له الأولوية، ويتقاطع مع العديد من التخصصات المتداخلة مع القضايا البيئية أو النباتية. في الحقيقة.. لقد انتقل الإنسان من عالم ريفي كان يعيش فيه بالقرب من الحيوانات، ولكن لا يعطيها الكثير من الاهتمام، إلى عالم حضري نادرة فيه الحيوانات ولكن أكثر اهتماماً بها. أصبحت الحيوانات تعيش في المنزل ويقيمون علاقات عاطفية قوية معها، وهذا انعكس على الأدب.»
يعود الأدب الحكائي الحيواني القديم إلى عهد إيسوب الإغريقي، وبفضلها أصبحت روايات الحيوان صنفاً أدبياً. وهو عبد يوناني عاش في اليونان القديمة بين عامي 620 و 560 قبل الميلاد. اشتهرت خرافاته حول العالم.وتعد أساطيره رافد للتربية الأخلاقية الموجهة للأطفال.نجد في جعبة إيسوب الكثير من الحكايات ومنها الثعلب والعنب، والسلحفاة والأرنب البري، والرياح الشمالية والشمس، والصبي والذئب. مروراً بكتب الحكمة الهندية مثل البانشاتانترا. ولدينا أساطير، أو ما تدعى خرافات لافونتين التي كتبها الشاعر الفرنسي جان دو لافونتين على مدار 26 عاماً والبالغ عددها 234، وتُعد من أفضل ما كتب على لسان الحيوانات، وكانت السبب وراء شهرته الواسعة ويحاكي فيها أساطير إيسوب، ولا يفوتنا كتاب «كليلة ودمنة» لابن المقفع، هو الكتاب الأبرز في التراث الأدبي العربي، وسابق بقرون لكتاب إيسوب، وقد صيغ بأسلوب أدبي رفيع، حيث امتلأ الكتاب بالحيوانات والطيور كشخصيات رئيسية فيه، وهي ترمز في الأساس إلى شخصيات بشرية، وتتضمن القصص عدة مواضيع من أبرزها العلاقة بين الحاكم والمحكوم، إضافة إلى عدد من الحِكم والمواعظ.
والكاتب الليبي الراحل «صادق النيهوم» كان يتخذ من الحيوانات موضوعات لرواياته وقصصه. وكتابه الشهير «القرود» قال من خلاله ما لا يمكن قوله في البشر لأن ذلك سيقوده إلى عقاب البشر الذي لا يرحم.
وفي الآداب الغربية، كتب جورج اورويل كتابه «مزرعة الحيوان» المنتسبة إلى الأدب السياسي وفيها يرصد تطورات الثورات، منذ اندلاع الحلم وحتى تحولها إلى كابوس رهيب. والبداية مع الخنزير العجوز ميجور صاحب الجائزة، والذي رأى في منامه حلمًا بالاستقلال، فأخبر به حيوانات المزرعة ومات، ولكن بعد موته تتحرر الحيوانات من استعباد مستر جونز السكير، وتطيح به وبرجاله لتصبح المزرعة ملكًا للحيوانات، ويقوم الخنزيران سنوبول ونابليون بإدارة المزرعة، ولكن مع تطور الأحداث تتحول الخنازير إلى صورة أخرى من البشر، من الاستبداد والظلم. وتضيع مبادئ الثورة، وتندثر شعاراتها وما كان يأمل إليه كل حيوان وسط ثغاء الخراف، ليجدوا أنفسهم كما كانوا قديمًا مجرد عبيد. وبمرور الوقت هيمنت الخنازير، التي أصبحت تحكم دون انتخابات، وترفض كل اعتراض، بل صارت تشبه البشر في هذا السلوك المستهجن.
ولكن في كتابه «التحول» كشف كافكا أن الإنسان يمكن بشكل ما أن يتحول إلى حيوان في الأدب. وهذا التحول الغرض منه مقارنة الإنسان بخصائص الحيوان المعني، ما يتيح التشكيك في الطبيعة البشرية. في هذه الرواية، يدعم بطلها جريجور سامسا مندوب المبيعات أسرته بفضل عمل يقوم به بجدية ولكن دون فرح. ذات صباح استيقظ وتحول إلى حشرة قذرة. يصيب الرعب عائلته، التي لا تعي أن غريغور ما زال حياً، رغم كل شيء، ويتمتع بضمير إنساني. محبوسًا في غرفته ولم يعد قادرًا على العمل، يحاول التكيف مع جسده الجديد لكن حياته اليومية تتدهور أكثر فأكثر.
عندما يغادر غرفته، منجذباً إلى صوت الكمان الذي تعزفه أخته، يصدم المستأجرين الذين يعيشون في المنزل ويدفعهم إلى المغادرة. ثار والده غاضباً، وقام بأذيته، ولينتهي الأمر بجريجور إلى الموت وحده في غرفته. بعد ذلك، يبدو أن عائلته ارتاحت لوفاته، وبينما كانت تعيش كطفيلي على راتب جريجور وعمله الجاد، تكتشف أن لديها موارد ومستقبلًا. وقد أدت هذه الرواية إلى ظهور العديد من التفسيرات لها «البرجوازية الصغيرة، العلاقات العائلية، المرض، الوحدة أو أيضاً الاقصاء الاجتماعي». وكان هذا النص من القوة بحيث مهد الطريق لنصوصو كامو وايونسكو.
بينما تتابع «أليس في بلاد العجائب» الأرنب الأبيض إلى جحره لتلتقي بمخلوقات غريبة. جسدت دلالات رمزية تحمل نقداً اجتماعياً وسياسياً. ولأنها موجهة للأطفال، فقد كانت منشطة للخيال والتربية.
وبالتالي فإن الكتب الناطقة باسم الحيوانات إنما توضع بقصد الموعظة والتعليم وتنطوي على مغزى أخلاقي أو درس اجتماعي أو هدف تربوي أو مضمون سياسي ناقد وذاع هذا النوع كنوع مهم في الآداب العالمية. وهي توفر للكاتب إمكانات تعبيرية أفضل وتعتبر شكلاً فنياً ذا أبعاد دلالية واسعة إذ تتيح للمتلقين فسحة رحبة للتأويل وفقاً لآفاق توقعاتهم أو دائرة اهتماماتهم المختلفة.
العدد 1146 – 6-6-2023