نلوم التقنيات الحديثة بإمكاناتها التي أصبحت فائقة أنها سرقتنا من أعمارنا ونحن نمضي الساعات تلو الساعات وراء تطبيقاتها، وبرامجها واسعة الآفاق لدرجة أننا ما عدنا نفرّق بين الواقع والوهم، وشبكات التواصل الاجتماعي تتكاثر بلا هوادة، وكل جديد منها يبرز لنا بميزات تفوق ما سبقه، وهو يقدم لمستخدميه إمكانات أوسع مما يمكن مشاركته مع الغير من مقاطع أفلام قصيرة، وصور، ومحادثات، ونصوص، وهكذا راجت منصات تطبيقات، وبرامج معينة على حساب غيرها حتى كادت تكتسحها، وتهمشها.
ومن هذه التطبيقات الحديثة للتواصل الاجتماعي واسع النطاق ما هو تحت اسم: (تيك توك) وقد عرّف نفسه على أنه أداة اجتماعية ممتعة، غريبة، وذكية.. لتصبح منصته واحدة من أكثر منصات الوسائط الاجتماعية شعبية، وسهولة في توصيل رسائلها، والوصول إلى جمهورها بعد أن نجحت في اجتذاب ملايين المستخدمين لها في مختلف أنحاء العالم، ومن خلال هذه الميزات مجتمعة حصد الموقع أرقاماً متنامية ممن انضموا إليه بما كاد يفوق أشهر التطبيقات الأخرى من دون أن نتعرض إلى تسمياتها لأنها معروفة، وموصوفة لدى كل الناس.
هذا التطبيق الذي انتشر بسرعة كبيرة بين الكبار والصغار بعد أن أصبح متاحاً في كل مكان عبر متجر التطبيقات، ولكل أنظمة الهواتف، أثار حوله ليس عاصفة واحدة من الانتقادات بل عواصف تكاد لا تهدأ.. فتارة هو مفسدة للأجيال، وتارة هو يخضع لميزة الرقابة الأبوية، وتارة هو نافذة ذكية للتعبير الحر عن النفس، وأخرى هو خطر داهم يهاجم الدول في عقر دارها، وغير ذلك كثير مما يتأرجح بين متناقضين هما السلب، والإيجاب.
والغريب من أمره أن أكثر مَنْ اجتذبهم إليه كانوا من المراهقين، فالبث المباشر الذي يتيحه، وإمكانية الأداء الثنائي، أو المتعدد بين مستخدمي هذا المجتمع الافتراضي على ضفاف القارات مهما تناءت، كما المؤثرات الخاصة من مقاطع صوتية، وموسيقى، والمرشحات أي (الفلاتر) التي يمكن استخدامها لتجميل الصورة، أو لاستكمالها، وتعديلها، كلٌ قد فعل فعله في استقطاب أكبر عدد من المراهقين حول العالم لتسجيل أنفسهم على منصته بغية استخدامه، حتى أصبح ظاهرة بحد ذاته تبحث الحكومات في أمرها.
إلا أن مفاجأة (تيك توك) لم تكن في الأفلام القصيرة وانتشارها فقط بل في الترويج للكتاب أيضاً.. أجل الكتاب، ولا تستغربوا أن يتم الترويج له من قبل العقلاء الذين يحسنون استخدام التقنيات بما يخدم، ولا يهدم.. فهؤلاء الذين اعتادوا على فعل القراءة وجدوا في هذه المنصة المفتوحة فرصة ليعرضوا مقاطع مصورة من أفلام قصيرة لا تخلو من المتعة، والطرافة أحياناً في صياغتها ليستعرضوا من خلالها ما أعجبهم من كتب بهدف تحفيز الآخرين لقراءتها.
وهكذا فعل هذا التطبيق فعله مرة أخرى، ولكن هذه المرة ليس للترفيه، والتسلية، بل في الدعاية إلى معارض للكتب، ولعناوين لمؤلفات، وأسماء لأدباء، وكتّاب، وذلك من خلال (حديث الكتاب)، أو بالإنكليزية (بوك توك).. والمفاجأة الأكبر كانت بأن عدداً لا يستهان به من المستخدمين قد تأثروا بهذه الدعايات الجادة، والتي تدعو بمهارة إلى العودة للقراءة، مما جعل سوق الكتاب ينتعش من جديد بعد النكسة التي أصابته بسبب أزمة كورونا، وإغلاق كثير من معارض الكتب، وعدول كثير من الناشرين عن إصدار الكتاب الورقي مستبدلينه بالآخر الإلكتروني المتوفر عبر مواقعهم على شبكة المعلومات، وعلى المنصات الخاصة بعرض الكتب، وتوفيرها حسب الطلب لكل مَنْ يرغب باقتناء كتاب.
بالفعل أصبح موقع (تيك توك) من حيث أنه يدري، أو لا يدري داعماً للكتاب، ومروجاً نشطاً له من خلال ما أصبح يُعرف تحت مسمى (بوك توك) إلى درجة أن تصنيف أفضل المبيعات للكتب بات يعتمد هذه المنصة للحصول على أرقام الكتب الأكثر رواجاً، وبالتالي مبيعاً، ومن خلال هذا الموقع، يمكن للمستخدمين البحث عن المحتوى الذي يرونه مثيراً لاهتمامهم، ومن ثم مشاركته مع أصدقائهم على منصات التواصل الاجتماعي الأخرى.
ليس هذا فحسب فموقع (بوك توك) لا يوفر جهداً في تحديث مستمر لمحتواه ليتم تصنيف المحتوى، وعرضه بناءً على عدد المشاهدات، وعدد الإعجابات التي يحصل عليها، ما يعني أن بإمكان المستخدمين العثور على كل ما يثير اهتمامهم.
إذن فحديث الكتاب هذا يعلن عن نفسه كموقع تجدر الإشارة إليه لمن يبحث جاداً عن محتوى يحترم العقول، ولا يجعل من الوقت مساحة فارغة إلا من الترفيه السخيف، والتسلية التي لا تقدم، ولا تؤخر.. فهلا يتحول الجمهور، ولو قليلاً من (تيك توك) إلى (بوك توك)؟.
* * *