الثورة-ياسر حمزه:
قديماً قال أرسطو إننا نعمل كي نرتاح, إذ إن استغراقنا في العمل والتعب لبضعة أيام متتالية، يعطي للراحة والكسل خلال العطلة لذة مضاعفة.
والإجازة الأسبوعية بمفهومها الحديث هي وليدة القرن التاسع عشر، عندما تمكنت النقابات العمالية في إنجلترا من انتزاع الحق بعطلة أسبوعية تضاف إلى العطلة الدينية، فكان لهم يوم السبت إضافة إلى يوم الأحد.
إلا أن صاحب الفكرة الأول والرائد في حمل لوائها كان العامل نفسه ,هذا العامل الذي كان يومه يبدأ عند الرابعة صباحاً وينتهي عند التاسعة مساءً.
إذ يروى أن عمال المصانع في إنجلترا خلال أواخر القرن الثامن عشر، كانوا يتسلمون رواتبهم أسبوعياً مساء السبت، ولأن يوم الأحد كان مخصصاً للواجبات الدينية وليس للراحة، تفشَّى غياب الكثيرين من العمال من أعمالهم يوم الإثنين، خصوصاً أن العائلة معتادة على تحضير وليمة عشاء مميزة مساء الأحد وبالتالي يتبقى منها ما يكفي لغذاء يوم الإثنين، الأمر الذي يعني أن وجبة الغداء المجانية في المصنع تفقد جاذبيتها، كما أن النقود التي قبضها العامل مساء السبت لا تزال في جيبه، فتعزِّز شعوره بالقدرة على الاستغناء عن راتب يوم، مقابل الاستمتاع بالراحة بعيداً عن العمل.
ظلت هذه الظاهرة مستمرة طوال القرن التاسع عشر تقريباً، حتى أتى دور النقابات العمالية ,التي تمكنت من دفع أرباب العمل إلى القبول بمنح موظفيهم إجازة ليوم في الأسبوع إضافة إلى يوم الأحد، من دون أن يحسم بدله من الأجور.
ورويداً رويداً، انتشر تقليد الإجازة الأسبوعية في يومي السبت والأحد حتى عم كافة المؤسسات، وفي المقابل تضاءل الغياب يوم الإثنين، حتى اختفى تماماً في بداية القرن العشرين.
فخلال الثلاثينيات من القرن الماضي، نظَّمت قوانين العمل في معظم الدول الأوروبية، بحيث بات العمال والموظفون يقضون ثماني ساعات يومياً في مراكز أعمالهم، وذلك لمدة خمسة أيام ، بعدما بات العامل يقضي ثلث وقته فقط في المصنع أو الشركة، والثلثين الباقيين في النوم والاسترخاء وأوجه النشاط الشخصية الأخرى. وبسرعة، طبقت معظم دول العالم هذا النظام مع بعض الاختلافات المحدودة بين مكان وآخر.
اليوم تعرض ولايات أمريكية عديدة اعتماد نظام عمل في مؤسساتها الحكومية على أساس أربعة أيام عمل مقابل إجازة من ثلاثة أيام أسبوعياً. ويشمل هذا النظام نحو %80 من الموظفين الحكوميين في الجامعات والسجون والمكتبات… والهدف من وراء اعتماد النظام الجديد هو تخفيض معدل استهلاك الطاقة.
إذ تشير الدراسات إلى أن أكثر من 32 مليون أمريكياً يذهبون إلى العمل بسياراتهم الخاصة. ويمكن لتطبيق نظام أسبوع عمل من أربعة أيام أن يخفِّض معدل استهلاك الوقود بنسبة %40.
ولكن هناك دوافع ثانوية تسهم في تعزيز اعتماد هذا الخيار، ومنها أن الشركات تعرضه وكأنه مكافأة للموظفين ,وتوفير المصاريف التي يتكبدها هؤلاء للوصول إلى مراكز أعمالهم، له تقديره من قبلهم. وفي الوقت نفسه، يبدو هذا النظام الجديد أكثر جاذبية للموظفين الأصغر سناً، الذين اختاروا ألاَّ يمضوا في الطريق الذي كان عليه آباؤهم من تكريس حياتهم للعمل وحده. فهذا النظام الجديد يعطي فسحة أوسع لهؤلاء الشبان تسمح لهم بالانصراف كفاية إلى ما يودون عمله في حياتهم، وتضفي مزيداً من التوازن بين حياتهم الشخصية والعملية, الأمر الذي يعزَّز بدوره من قدرات الشركات على اجتذاب المواهب الشابة.
والواقع أن «أسبوع العمل من أربعة أيام» ليس ابتكاراً أمريكياً خالصاً ,فالفرنسيون طرحوه على بساط البحث أكثر من مرة على الصعيد الحكومي. أما على صعيد القطاع الخاص وقطاع التعليم فكثيراً ما تتمدد الإجازة الأسبوعية لتصبح أكثر من ثلاثة أيام.
فمن المعروف عن الفرنسيين ولعهم الشديد بأيام العطلة الأسبوعية، التي تتألف عادة من يومي السبت والأحد. ولكن إذا صدف أن وقع يوم عطلة لمناسبة دينية أو وطنية يوم الثلاثاء، يعمد الكثيرون من الموظفين والطلاب والمدرسين إلى وصل الإجازتين ببعضهما، فيضمُّون من دون استشارة رؤسائهم يوم الإثنين إلى الإجازتين لتصبح الإجازة الواحدة أربعة أيام. ويطلق الفرنسيون على هذا التقليد اسم «الجسر».
هناك ميادين عمل كثيرة لا تسمح أبداً باعتماد نظام الإجازة الأسبوعية العام المعمول به لأنها وبكل بساطة تنطوي على مهمات لا تتحمل أي انقطاع. ومن هذه الميادين العمل في السلك العسكري (جيش وشرطة ومختلف القوى الأمنية)، الطبابة والتمريض، قطاع النقل العام (محطات قطار ومطارات وسيارات أجرة وحافلات..)، الخدمات السياحية (مطاعم، فنادق، مقاهٍ وما شابه)، الأفران، الصيدليات، الحراسات الأمنية… فكل هذه القطاعات تلجأ إلى اعتماد «المناوبة» أي منح الإجازات دورياً من دون أن يكون ذلك مطابقاً حكماً لأيام الإجازة الأسبوعية المعتمدة، لا بل غالباً لا تأبه بهذا التطابق على الإطلاق.
مما لا شك فيه أن لحظة الخروج من العمل عند بدء الإجازة الأسبوعية لا يزال يتسم بشعور بالارتياح، وبصورة الموظف المبتسم الذي يتمنى لزملائه عطلة سعيدة. ولكن ما من شك أن هذا الارتياح لم يعد بالزخم الذي عرفه الجيل السابق، ولا حتى الجيل الحالي عندما كان على مقاعد الدراسة. فثمة ما تغير في مضمون الإجازة الأسبوعية.
لم تعد الحياة الحديثة تكتفي بأربعين ساعة عمل أسبوعياً، وإن كان هذا هو عدد ساعات فتح المكاتب. فأجهزة الكمبيوتر في البيوت وتلك المحمولة في الشارع أضافت إلى مكان العمل أماكن أخرى. وجعلت السعي إلى زيادة المداخيل عن طريق عمل إضافي أمراً ممكناً. فعلى سبيل المثال، تشير الأرقام إلى أن أكثر من %80 من الموظفين البريطانيين يعملون أكثر من 48 ساعة أسبوعياً. وواحد من كل ثمانية موظفين يعمل أكثر من 60 ساعة.
وإضافة إلى السعي لزيادة المداخيل، فإن نمط الحياة الحديثة في المدن الحديثة بات يحيل الكثير من الأنشطة والواجبات الأسبوعية إلى أيام الإجازة.
فزيارات الأصدقاء باتت تؤجل حتى عطلة الأسبوع، والواجبات الاجتماعية كذلك، وطالما أن المرأة صارت تعمل خارج البيت، فهذا يعطي تراكم بعض الأعمال المنزلية وتأجيل القيام بها حتى عطلة الأسبوع، وصيانة المنزل صارت تتم خلال «الإجازة»، والتسوق أيضاً.. بعبارة أخرى، صارت الإجازة الأسبوعية المساحة التي يمكن فيها الوفاء بكل الالتزامات اليومية التي يعوق العمل تنفيذها خلال أيام الأسبوع.
وهكذا، مهما تضمَّنت الإجازة فترات راحة واسترخاء ومشاريع ترفيهية ممتعة، فإن الإحساس بالارتياح الذي ينتاب الموظف أو العامل لحظة خروجه من العمل عند بدء إجازته يكون قد فقد زخمه، من دون سبب مبرر واضح، بعيد ساعات قليلة. وأكثر من ذلك، فإن وفرة وسائل التسلية والترفيه (مثل التلفزيون، والمقاهي والألعاب الإلكترونية وما شابه ذلك) أفقدت اللجوء إليها في عطلة الأسبوع نكهته، لأن اللجوء إليها ممكن ويحصل فعلاً كل يوم.
فمنذ الساعات الأولى يبدأ الموظف بالبحث عما يمكن أن يشغله خلال اليومين المقبلين، وكيف يمكنه أن يستغل هذه الإجازة. ناسياً أن أفضل استغلال لها هو عدم استغلالها في شيء. إنه وقت للراحة الجسمانية والنفسية. هذه الراحة التي نحتاجها لاستعادة الطاقة اللازمة للعمل، والتي كانت الغاية من ظهور مفهوم الإجازة الأسبوعية واعتمادها. ولكن يبدو أن الغاية الأساسية قد أهملت، وبقيت الوسيلة. وسيلة نتعثر اليوم في التعامل معها،
ولا ندرك قيمتها إلا لساعات قليلة قبيل استئناف العمل، فنشعر بشيء من الحسرة على انتهاء الإجازة الأسبوعية.
هذه الإجازة التي لم يبق من أفراحها وأتراحها غير البداية والنهاية، حتى باتت هي البداية والنهاية.