أ. د. عبد الله المجيدل:
تُعد الفوضى والحروب من أكثر العوامل التي تهدد الانتماء الوطني وقيم المواطنة، إذ تدفع في أحيان كثيرة إلى البحث عن حوامل وانتماءات فرعية تعيدنا إلى مرحلة ما قبل الدولة، وتعمل على تفكك المجتمع وتصدع بناه الفكرية والقيمية والثقافية، وبالتالي تهديد وحدة تراب البلاد.
ولعل فلسفة الارتقاء والتعالي فوق كل هذه الرؤى الضيقة والمحدودة لا تتوافر لدى فئات كثيرة من المواطنين، والتي أرى السبب فيها بصورة دائمة بتقصير في التربية بمفهومها الشامل في بناء المواطن، وما يترتب على ذلك من سلوكيات بعيدة عن جوهر قيم المواطنة والحضارة، ومن هنا لابدَّ أن يناط بالتربية بوصفها الأداة الرئيسة في بناء المواطن، إضافة إلى النخب المثقفة ذات البعد الاجتماعي المؤثر في بيئاتها الاجتماعية، مهمة العمل على بناء منظومة قيمية لا تقتصر على أنماط التفكير النظري، بل متمثلة بسلوكيات فعلية وإجراءات عملية تعبِّر عن تمثل قيم المواطنة بمختلف تجلياتها.
ولعل الليبرالية الاجتماعية، وإن كان المصطلح في شكله دخيلاً على ثقافتنا العربية التراثية، ولكن مع تباين مدلولات المفهوم وغموضها فإن قاسماً مشتركاً من مدلولاته حاضر في مجمل تراثنا الاجتماعي والديني للديانتين الإسلامية والمسيحية، وفي التراث الاجتماعي المتوارث من مختلف فترات الحضارة العربية التي سادت لقرون عديدة وأثرت في كثير من الحضارات التي أعقبتها، ولاسيما في قيم المساواة والعدل وإلغاء العبودية وحقوق المرأة وحقوق الطفل ومختلف أشكال الرعاية والحق في العمل وغير ذلك من قيم تشكل الأسس التي تقوم عليها الليبرالية الاجتماعية المعاصرة، بل قد نجد من القيم ما يتجاوز دلالات المفهوم المعاصر في التعامل مع الإنسان والبيئة وغير ذلك، وما دامت المبادئ التي تقوم عليه الليبرالية الاجتماعية تنسجم مع إرثنا الحضاري والديني لمختلف فئات المجتمع والتي تأتي على رأسها قيم التسامح واحترام الحرية الفردية والدعوة إلى المشاركة في العمل واحترام الملكية الفردية بإشراف الدولة التي تضمن التنافس النزيه والشريف والعادل القائم على جودة المنتج، إضافة إلى توفير الخدمات الاجتماعية من مثل: الصحة وغيرها من الخدمات، وهنا لابدَّ من الإشارة إلى الخطأ الشائع والذي لم نستطع تصويبه إلى الآن، إذ لا يتوجب النظر إلى التعليم على أنه نمط من الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطن، بل هو أحد أشكال الاستثمار في الكفاءات البشرية التي تقوم اقتصاديات بلدان متقدمة كثيرة على ريع هذا الاستثمار، وكذلك بأن الإنفاق على البحث العلمي ليس هدراً للأموال، وإنما هو أكثر أشكال الاستثمار ربحاً وريعية، ولعل تجارب البلدان التي مرت بظروف ربما أكثر حدة من تلك التي مرت بها سورية، تفيد بأن العلم والعمل والإرادة الوطنية لدى شعوبها كانت كفيلة في إعادة البناء فيها وارتقائها سلم الحضارة وتحقيق تقدمها في مختلف المجالات.
وإذا كانت الليبرالية الاجتماعية قد طرحت بوصفها أيديولوجية قائمة على الحريات والحقوق الجماعية التي تضمن العدالة والرفاه الاجتماعي، فإنها لا يمكن أن تكون في صورة قوالب جامدة لا تمتلك المرونة التي تضمن تحقيقها بأساليب متباينة من مجتمع إلى آخر، وفقاً للمعطيات الموضوعية وظروف كل بلد من البلدان، ولا شك بأن من يتأمل دستور الجمهورية العربية السورية سيجد أن مجمل مبادئ الليبرالية الاجتماعية حاضرة في مختلف مواده، ولا تحتاج إلّا إلى البحث في أفضل السبل لتحقيقها.
ولما كانت الليبرالية الاجتماعية تعتمد الإصلاح المتدرج للنظام الاقتصادي من خلال اعتماد مفهوم “دولة الرفاه الاجتماعي” والعدالة الاجتماعية ودمجها مع الليبرالية السياسية المعتمدة على الحريات وحقوق الإنسان وتنظيم الحرية الفردية، ضمن إطار واضح من المصلحة الجماعية، فهي مدخل سياسي مرن وغير متحجر يهدف بطرائق متباينة إلى تحقق الأنموذج الأكثر ملائمة من“الديمقراطية الليبرالية” الاجتماعية لكل بلد من البلدان بما يضمن المساواة والعدالة والحرية والرفاه الاجتماعي، ولا يقتصر الأمر على هذه المبادئ وحسب، بل يتضمن جوانب أخرى من مثل: حقوق الإنسان، ومكافحة التمييز بجميع أشكاله وصوره، والتخلص من تأثير رجال الأعمال، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وهي لا تقتصر على المساواة أمام القانون، بل العدالة والمساواة في تمكين المواطنين جميعهم من القدرة على استثمار حقوقهم القانونية، والاستفادة من فرص التنمية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتساوي في الفرص المتاحة أمام الجميع دون تمييز، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، ولاسيما في المجال التعليمي، بما يضمن فرصاً متكافئة لجميع المواطنين في التعليم، إذ ما نشهده من تعليم يمكن وصفه تعليماً تمييزياً، فمن يمتلك المال يستطيع توفير النمو التعليمي لأطفاله من مرحلة رياض الأطفال إلى المرحلة الجامعية، أما الفقراء من المواطنين فليس لأطفالهم مثل هذه الفرص، وهذا يؤدي لشروخ طبقية أسسها تعليمية، في حين يضمن الدستور المساواة في التعليم وتكافؤ الفرص التعليمية.
وهذا ينسحب على أشكال التعليم الخاص بمختلف مستوياته، فالديمقراطية وحقوق الإنسان، تضمن حقوقاً متساوية لكل المواطنين من مختلف الأصول والأعراق والأفكار وهذا يفضي إلى الشعور بالعدل والمساواة ويعزز التسامح والسلم الاجتماعي، الذي يشكل عنصراً رئيساً للعيش المشترك والذي ينبغي أن يكون مبنياً بدوره على العدل، واحترام حقوق الآخرين والحوار.
وبناءً على متقدم يمكن القول بأن الديمقراطية والليبرالية الاجتماعية وغيرها من الليبراليات ومفهوم الحرية وممارستها، وقيم المواطنة وتمثلها هي قضايا تربوية بالدرجة الأولى، ومخرجات للنظم التعليمية، وفقاً للقول المأثور “من يخطط للتربية يخطط لحياة المجتمع برمتها”.
* أستاذ في كلية التربية بجامعة دمشق وعضو اتحاد الكتاب العرب.