الملحق الثقافي- صالح السودة:
اعتاد الذهاب إلى بيت عمه «أحمد أبو شفيق» يومياً من أجل اللعب مع أبنائه في الدار الوسيعة، حيث كانت زوجة عمه تهتم بالأولاد وتداعبهم، وتضحك معهم، وتلبي رغباتهم في ما يحتاجون للعب، ولا تضجر منهم مهما فعلوا، هذه كانت وصية «أبو شفيق» لزوجته دائماً أن تبتسم في وجه الضيوف وتثني عليهم بالترحيب، وتحسن معاملتهم بكل طيب ومحبة، لأن أبا شفيق اكتسب هذا الأسلوب مع الناس منذ الصغر، فأحبه الكثير منهم، وأصبح مثالاً في قريته يذكر اسمه في كل مكان لأنه يملأ قلبه بالحب والمرح والفرح والابتسامة لا تفارق محياه، فاعتادت أم شفيق على هذا معه إذ أصبحت تعامل الناس كما يحب زوجها الذي يخرج من الصباح إلى عمله، ويعود بعد منتصف النهار من وظيفته التي كانت تعطيه راتباً لا يكفي مصاريف البيت ولو لعشرة أيام، لذا قررت زوجته أن تعمل في مجال الخياطة على مكنة ورثتها من والدتها مع تلك الحرفة، وبعد فترة من الزمن اشتهرت في المنطقة بعملها المتقن وحسن معاملتها حتى أصبح الناس يأتونها من كل حدب وصوب كي تخيط لهم الملابس الشعبية، وما يلزم البيت من الخياطة، وقتها كان الكثير من النسوة يجتمعن في بيت «أبو شفيق»، ويجلسن مع الخيّاطة في غرفة تتسع لأكثر من عشرة أشخاص يطلق عليها أهل القرية «المعداي» بدلاً من الصالون..، ويتحدثن عن الأفراح والأتراح، فيتسامرن ويضحكن وكأنهن من عائلة واحدة، وأم شفيق تجلس على كرسي خشبي صنع من الخيزران، ومكنة الخياطة أمامها كأنها ولد الأتان حديث الولادة إذ يتدلَّى ذيله إلى الأسفل، ويلتف حول بكرة معدنية متصلة بدعاسة تحت قدم أم شفيق تدوس عليها لتحركها قياماً وقعوداً فيصدر من المكنة صوت كصوت القطار الصغير، وهو يسلك طريقه إلى مناطق متعددة المشارب والمذاهب والطوائف والأديان ليحطّ رحاله عندهم، وهم يتعايشون مع بعضهم البعض على المحبة والمودة والتعاون وطيب المعشر.
كانت قطعة القماش تحت يديّ أم شفيق تجتمع تارةً وتنفرد تارةً أخرى، وكأن الخوف تملَّك منها حيث رأس الخياط الذي يخرج من فم المكنة يشبه ناب أفعى يغرس فيها، فيترك أثراً بليغاً لا يندمل، بينما كانت الخياطة تحكم تلك القطعة بهدوء وفن متقن لتصنع منها شيئاً جميلاً يتباهى أصحابه فيه أمام الآخرين، وهي تشارك الجالسات الحديث حيث المحبة والطيبة تسكن قلوبهن، والابتسامة تعلو وجوههن، فكل واحدة تأخذ دورها في أعمال الضيافة وكأنهن أصحاب البيت يعرفن كل شيء في داخله، إحداهن تصنع القهوة وأخرى تصنع الشاي أو «المتة»، وفي بعض الأحيان يجتمعن على مائدة واحدة.
بقيت تلك الصورة تتكرَّر أعواماً وأعواماً حتى بدأ الهرم يتسلل إلى جسد الخيّاطة أم شفيق، ولم يعد بمقدورها تلبية حاجات الناس عدا عن ذلك أصبحت مشاغل الخياطة، والمحال التجارية تعمَّ البلاد، وراح الناس يزحفون وراء ما يسمى اليوم «الموضة» القادمة من الغرب، والتي كانت بداية لتفكيك المجتمع العربي، وانحلال الأخلاقيات بين العامة، لأن مجتمعنا العربي اعتاد على الحشمة، واحترام مشاعر الآخرين منذ زمن بعيد.
لم يعد يرى تلك النسوة في دار عمّه «أبو شفيق» حتى حدثته الخياطة أم شفيق عنهن ذات يوم وهو شابٌّ يافعٌ، فبدأت تسرد له حكايا عن الأيام الخالية كيف كانت المحبة تجمع الناس على قلب واحدٍ، والتعاون المشترك في السراء والضرَّاء، والتفاهم الفكري والمعنوي ..
يا بني إن التي كانت تصطحب طفلها الرضيع، وعلى رأسها شال أسود هي من القرية المجاورة شمالنا، تقع بلدتها بين الصخور والكهوف لأن الجبل يحتضنها بين جناحيه المنفرجتين شرقاً وغرباً، ويعمل البعض من أهلها في المدينة، والبعض الآخر في مجال الفلاحة أمثالنا، ونشرب المياه معاً من نبع واحد، أما الجميلة ذات العينين الخضروين، والشعر الأشقر المتدلي على كتفيها فكانت تسكن جنوباً في مساكن المدينة التي تبعد عنا ما يعادل سير عشرين دقيقة في السيارة، وجذورها تعود إلى الساحل حيث بنيت ديارهم على شواطئ البحر، وكان زوجها يعمل في سلك الجيش، و«التي كانت تضع على رأسها منديلاً أبيض» هي من منطقة جبل العرب أيضاً زوجها يعمل في التجارة يتجول عبر قرانا، وعندما سمعت زوجته عن عملي اعتادت أن تأتي في كل عام مرة أو مرتين لتصنع حاجاتها من الخياطة عندي، والمرأة التي ترتدي جلباباً أسود، ونضارة طبية كانت أيضاً تأتي من العاصمة للغرض ذاته.
هكذا كان يعيش الناس في بلادنا منذ زمن بعيد، حتى جاءت النفوس المريضة لتدسّ السم بين أفراد المجتمع بالفتن والكراهية والتفرقة..، لكن اطمئن يا ولدي نحن لم نعر اهتماماً لذاك الغرض لأن أصولنا وكرامتنا لا تسمح بذلك، فنحن ما زلنا على ما نحن عليه من المحبة والتعاون والتقارب الفكري والترابط الاجتماعي، ليبقى بلدنا واحداً موحداً، لذلك مازلنا حتى اليوم على صلة مع بعضنا بعضاً، حيث دعوتهن في العام المنصرم لزفاف ابنتي فحضرن جميعاً، وبينما هو جالسٌ يسمع حديثها باهتمام بالغ فإذ بالهاتف يرنّ، رفعت أم شفيق السماعة فانفرجت أساريرها عن ابتسامة ملأت قلبها بالسرور، واحمرت وجنتاها كأنَّ البدر يعلو كتفيها عندما سمعت صوت المتصلة، وراحت تُرَحب بها أجمل ترحيب.
العدد 1152 – 25-7-2023