الثورة – حسين صقر:
لاشيء قيل جزافاً، حيث الناس للناس، ولا أحد يعيش لذاته، ومناسبة هذا الحديث حضوري على موقف أثلج صدري، وأكد لي أن الدنيا مازالت بخير رغم الضيق المعيشي والغلاء الذي نشهده نتيجة الحرب الإرهابية التي شُنت على سورية.
وأثناء ذهابي إلى سوق باب سريجة لشراء بعض الحاجات، وإذ بشاب يعطي مبلغاً مالياً، حسب تقديري يساوي أكثر من خمسين ألف ليرة لقاء ما اشتراه من الجزار، لكن الأخير يعيد له النقود وهو يحلف بأن لا يأخذه منه في تلك اللحظة وهو يقول: يمكنك أن تحضره لي كاملاً في المرة القادمة، وما عليك إلا أن تقضي حوائجك اليوم، ثم تأتي لاحقاً وتسدد ما عليك.
ونتيجة حلفانه، قال لي الشاب، أرجو أن تسلم له المبلغ من يدك، لأنه أقسم ألا يستلمه مني، لكن الجزار أعاد الكرة ورفض استلام المبلغ، وحينها دفعني الفضول لأعرف ما يجري، وقال الشاب، أردت شراء بعض من هذه السلعة التي تراها بواحد وخمسين ألفاً، وعندما وضعها هذا الطيب على الميزان، بلغت الواحد والستين ألفاً، فقلت له اقتطع منها حتى أستطيع أن أعطيك ثمنها، فقال: لا، وبإمكانك أن تعطيني ما تبقى عندما تحضر إلى السوق مرة أخرى، وأصر على ذلك، وعندما هممت بالمغادرة، قلت له: إذا لم أحضر إليك وأسدد التزامي عليك الذهاب إلى مكان عملي الكائن في هذه المنطقة واسأل عني، وسوف يدفع لك من يعرفني المبلغ، عندها ابتسم واقسم بألا يأخذ المبلغ هذه المرة، وقال سوف آخذه منك كاملاً في المرة القادمة، وعرف أن لدي حاجات أخرى سوف أشتريها ولم يتبق معي من المال ما يكفي، والآن أحاول إقناعه كي يأخذ ثمن السلعة ولم يقبل مني، وبلحظتها حاولت التدخل مرة أخرى، إلا أن الجزار أكثر الله من أمثاله لم يقبل، وقال للشاب: إذا أردت فسدد ما عليك، وإذا تعسرت فأنا أسامحك.
عندها شعرت بالفرح لأن الدنيا فعلاً مازالت بخير، وأن السوريين لن تغيرهم الظروف المعيشية والاقتصادية ومازالوا يشعرون ببعضهم ويتحسسون الآلام والأوجاع والحاجة، ويدركون تماماً أن الناس للناس مادام الوفاء بهم والعسر واليسر أوقات وساعات وهو قول للشاعر الذي يتابع فيه قائلاً : وأكرم الناس مابين الورى رجل تقضى على يده للناس حاجات.
وأدركت أيضاً أن الخالق عز وجل خلق هذا الكون كاملاً، حيث لاأحد خلق لذاته، ولاشيء أوجد لنفسه، فدودة القز لاتلبس الحرير، والشجرة ليست بحاجة لثمارها، والنهر لا يعطش ولايشرب ماءه، والشمس لاتضيء طريقها، بل للبشر، وهكذا الأخيرون لايعيشون لذاتهم ولا يحيون لها، ولكل منهم رسالته ومهمته التي خلق ليؤديها ويوصل من سئل عنهم إلى بر الأمان.
– معرفة الوجوه السمحة..
وعرفت أيضاً أن الناس يعرفون بعضهم ويقرؤون تفاصيل الوجوه، حيث بالفعل السمات في تلك الوجوه، لأنه بعودة إلى الجزار، سألته فيما إذا كان يعرف ذلك الشاب، فقال لي: يا أخي هناك علامات على بعض الوجوه وملامح يجب أن نطمئن لها، وهذه الوجوه لا تعرف الغدر أو الخيانة، وتحفظ طريق العودة جيداً وتحافظ عليه، وهناك على الضفة الأخرى أناس لا يدركون أهمية ذلك الطريق، وكلما قطعوا خطوة يرمون الأشواك خلفهم، ولايحسبون حساباً بأنهم ربما يعودون حفاة عليه، ولا يلتفتون للخلف، ويحصلون على حاجاتهم ويغادرون، بل ولا ينسون وحسب، إنما ينكرون المعروف أيضاً وبذلك يقللون المروءة، ويجعلون الإنسان يعد للألف قبل أن يسدي خدمة لهم.
نعم إن الدنيا بخير، ولاشيء قيل أو أطلق جزافاً، والأمثال والحكم والمواعظ خلاصة خبرات وتجارب.
