رشا سلوم:
ماذا يمكن للكاتب أن يفعل بعد أن يطلق نصه أو عمله الإبداعي، هل يمكنه استمزاج الآراء والعودة إلى تعديله مثلاً، أم إنه يقتنع بما كتبه، ولكن السؤال المختلف هنا ليس هذا الذي طرحناه، إنما السؤال: ما العلاقة التفاعلية والجدلية بين الكاتب والقارئ، أليست علاقة حياة وتفاعل، ما فائدة إبداع لايقرأ، وما فائدة الحبر المسال إذا لم يجد من يعطه حياة ثانية؟..
هي جدلية جديدة ونظرية تقول إن القارئ هو مؤلف ثان، بل هو المؤلف الأساس، هذه العلاقة تطرحها وتناقشها الدكتورة لبانة مشوح وزيرة الثقافة في كلمة الوزارة التي تصدرت العدد الجديد من مجلة المعرفة التي – المجلة تتأخر بالصدور – كثيرا – ترى الدكتورة مشوح أن هذه الجدلية بدأت مع (الأديب البرتغالي أنطونيو لوبو أنطونيز المولود في ليشبونة في العام (1942)، والحائز على جوائز أدبية مرموقة على المستويين الوطني والعالمي، إذ يقول مخاطباً قارئه: «جُب صفحاتي كما لو كنت تعيش في حلم، فإذا ما تجوَّلت في جوانبه المضيئة وزواياه الغامضة، اكتشفت دلالات الرواية بوضوح يعادل في شدَّته وضوح غرائزك والمناطق الرمادية في عصور ما قبل تاريخك. وحالما تنتهي رحلتك هذه وتغلق كتابك، عاود التجربة مجدداً، أريد من قارئي أن يكون له حضور في روايتي، أو في قصيدتي، أو في رؤاي… سمهِّا ما شئت، أريده حاضراً فيها وجزءاً لا يتجزَّأ منها كيما يتمكَّن من أن يجد مكانه بين شياطين الأرض وملائكتها».
أطلق أنطونيو لوبو أنطونيز بهذا دعوة إلى القارئ للغوص في كلِّ تفاصيل كتابته، وتحدَّاه أن يستعيد ما قرأ ويعيد تكوينه، ليحييه ويعيش التجربة بكل تفاصيلها مضيفاً إليها من ذاته. يُعيد هذا إلى الواجهة مقولة ميشيل تورنييه من أنَّ القارئ يشارك المؤلف في كتابة عمله الأدبي ما يعني أنَّ القارئ شريك في العملية الإبداعية، ولا يكتمل النص الأدبيُّ إلَّا بقارئه.
إشكالية العلاقة بين الكاتب والقارئ تعرَّض لها الناقد والفيلسوف الفرنسي رولان بارت، فصاغ نظرية مفادها أنَّ العلاقة بينهما جدلية، فالكتابة بالنسبة إليه تحرُّر، لكنَّها في آن معاً اندماج في التاريخ والمجتمع.. في معرض إجابته عن سؤال فيما إذا كان بالإمكان فصل القارئ عن الكاتب، يقول رولان بارت: «عندما يباشر الكاتب عمله الإبداعي، لايكون قارئاً لما يكتبه فحسب… إنه أيضاً قارئ لعدد لا محدود من النصوص التي سبقته وتحيط به. العلاقة بين النص والقارئ هي إذن علاقة تناص، وكأن النصوص تتحاور فيما بينها، وكأن القراءة والكتابة تشكِّلان معاً نوعاً من النسيج الجدليِّ المستمر.(….) ليس القارئ في واقع الأمر إلا الكاتب الافتراضي لكل الكتابات التي تؤلِّف النص».
للقارئ في نظرية الأدب دور أساس في اكتمال العملية الإبداعية، إذ لا تكتمل «النصِّية» إلا بالقارئ. والقراءات المختلفة للنص الواحد تلقي الضوء على حقيقة القارئ، ومدى عمق تجربته الإنسانية، وقدرته على قبول الآخر المختلف، سواء انتمى هذا الآخر إلى الثقافة الوطنية نفسها أم إلى ثقافات أخرى، هنا تغدو العلاقة بين اللغة والثقافة مجالاً محرِّضاً على الإبداع، وتدخل اللغة والثقافة في علاقة جدلية أكثر وضوحاً، فتصبح الثقافة أحد أهم مصادر الإبداع الذي تختزله اللغة وتغدو انعكاساً له.)
ويبقى السؤال الأهم ما هو رصيد المؤلف الذي لايعرف كيف يكون مصير أعماله الإبداعية إلا في لغته الأصلية هو، أو المؤلف الذي تبعث أعماله من جديد بعد إهمال طويل و الحقيقة أن العلاقة تبقى مبتورة بين القارئ والمؤلف، ولايمكن أن يكون القارئ مؤلفاً جديداً لها إلا لنفسه.
