الثورة – رنا بدري سلوم:
خمسة شعراء، تأبطوا قصائدهم المنداة، كتبوها بحبر العيون الحالمة بدمشق، يؤكدون فيها أن الشعر لا يموت، وإن هجّر، وإن قمع، وإن سار بين أرصفة المنفى شارداً جائعاً خائفاً، إنه كالوجود أو لا وجود.
بعضهم أتى إلى الشآم مع حقائب سفر من بلاد الاغتراب، يتنفس الصعداء هنا في سوريا الحرّة التي كتب الشعراء لأجلها الحب.. وإن صمتوا دهراً.
“اِرْحَلْ لأنّهمُ لن يرجعوا غنماً
قلْ لي بلا غنمٍ ما يَنْفَعُ الأسدُ؟!
إن كنتَ فيهمْ فكم في البحرِ من زَبَدٍ
تَبقى البحارُ ويلْقَى حتفُه الزَبَدُ”.
بهذه الأبيات بدأت أمسية الشعر في معرض دمشق الدولي، أبيات تحمل من معرة النعمان نسائم حب لدمشق، كما بين لنا الشاعر عبد الرحمن الإبراهيم في تصريحه لنا، أن دمشق ستكون صوته وحبره.
الإبراهيم يكتب بروحٍ لا تَعْرِفُ التردد، ويجعلُ من القصيدةِ مرآةً تُعَكِس وجدان سوريا وحنينَها، كلماته تمزج بين صدقِ التجربة وعمقِ المعنى، موجهاً كلماته الأولى لأطفال درعا، وتناول قصائد وجدانية فقرأ نص بعنوان” شهقة المجاز”:
قمرٌ يمدُّ يديه
من شبَّاكها متسوِّلاً
ومِنَ الحَياْ يتعرَّقُ !
مِنْ غير مَنٍّ
أكرمَتْهُ بخدِّها
ومضى يَطوفُ على الظلام وينْفِقُ
شهَقَ المجازُ بأحرفي
لمَّا رأى قمري
على قمر السما يتصدَّقُ
وكأنَّ ملهمتي دمشقُ
وأحرُفي كالياسمين
بكفِّها تتفتَّقُ
والشاعر الإبراهيم له عدّةُ أعمالٍ مطبوعة، حاصِلٌ على عشرات الجوائزِ الشعرية، وله مشاركاتٌ في الكثيرِ من المهرجاناتِ الأدبية، ولديه خمسة دواوين قيد الطباعة.
أما الشاعر وائل الأسود الذي يكتب بحروف مقطوفة من بساتينِ الرّوح، تحملُ عبقَ الصّدقِ ووهجَ الانفِعَال، يكتبُ ليُحاكي القَلبَ قبلَ العَقل، ويَتركُ صدىً يُقيم فينا طويلًا، قرأ الأسود قصيدة بعنوان “برزخ”:
ويحضرني غيابك ليس وجهاً لوجه إنما يا بنت غدرا
فيحطب ظهر أحلامي تماماً كأني لم أكن سنداً وظهرا
تعبت من النوى لك أن تقولي تعالى وعد معي لأعود فورا
معي لأعود دمع أبي وأمي يناديني بنيّ كفاك هجرا
معي قلق المسافة حين تغدو قبيل لقائم المشتاق عمرا
معي جرح وفيّ من زمان وفقر شب مرضيا وبرا
تقول لي القصيدة لست مني إذا لم ترتفع بالشارقة تثور ألف ذكرى
أما اشتعلت عيونك ذات دمع أما سقطت وأنت تجر ثأر؟
ويوم شبعت ممن نفاك قهراً أليس هناك ما يحتاج ذكرا؟
بلا لكنني لو بحثت ما بي من المنفى إذا لحفرت قبرا.
فيما خاطب الشاعر موسى سويدان شآمه في الأمسية الشعرية بقصيدة عنوانها “جدائل من نور”:
لأنك أنت الحرب أصبحت شاعراً
فجوعت أبنائي وأطربت حاسدي
ثقيل علي الهم لكن حملته
على ظهر أمي عندما انشل ساعدي
وإن قتلونا حررتنا قبورنا
لندفع عن أعراضنا بالشواهد
كما نزل الناموس في حين غفلة
سيبعث سيف الله من قبر خالد.
فيما يشير الشاعر براء هلال للشآم فيقول:
“هَذِهِ الشَّآمُ وَلَا مَرَامَ سِوَاهَا
يَا لَهَفَةً فِي الرُّوحِ لَا تَتَنَاهَى
عَطْشَى بِأَنْهَارِ الوِصَالِ وَرِيِّهَا
صَبٌّ.. فُؤَادَ الصَّبِّ فِي سُقْيَاهَا
رسَمَتْ بِأَحْدَاقِ الزَّمَانِ بَهَاءَهَا
تَبْكِي بِهِ عَيْنَاهُ مُذْ رَأَتَاهَا
يَا أَنْتَ يَا مَهْوَى الأَعِنّةِ وَالسُّرَى
وَيَحِفُّهَا جِبْرِيلُ فِي عَلِيَاهَا
يَسْرِي بَشُوشًا فِي مَحَانِي صَدْرِهَا
رَقْرَاقُ مِنْ بَرْدَى رُضَابُ لَمَاهَا”.
كلمات فيها رهافة الحس، لشاعر أضاء عالم الأدب والإعلام واللغة، ليس شاعراً فحسب، بل أستاذٌ جامعيٌّ في النقد والأدب، وإعلامي حربيٌّ حمل رسالة الشعر والفكر إلى مختلف الثقافات، الشاعر براء هلال الذي يهدي دمشق قصيدته ويخاطبها، وفي تصريحه بين أن كل ما حمله في بلاد المنفى من صور في مخيلته من جيرود مسقط رأسه ودمشق عاصمة قلبه يهديها شغاف القلب بأبجدية الحب والهوى..
تعــــــاليْ نبدّدُ جيــــشَ الحـنـيــــنِ
ونســــحبُه اليــومَ ألفـــاً فألـفـــــــــاً
ونهـــــــدمُ دارَ الحـبـــيبِ ونــبــني
ديارَ المُقـــــامِ على ثَغــــر منـفـــى
ألا قاتلَ الله عهْـــــــدَ الغــــــــــرامِ
ســئمنا المحبة نخـــباً وصـنفاً
تعالي نــدوسُ رؤوسَ السَّــــــــنا..
بلِ كـي لا تصــــــيرَ الســنابلُ عُرفاً
نراجـــعُ درسَ الخضـــوع سوياً
ونشــربُ كــأس المــــــذلّة صِرْفاً
إذا مـــا جُــنِـنْــتُ فلا تظلـــميــــني
فما كـــانَ قلبي المـــتيــمُ جَـلفــــاً
ولكـــنْ جــريتُ وراءَ الزمــــــــانِ
فلـــمْ أرَ إلّا عجَـــــاجاً و رِدفَـــــاً
وقد كنتُ يومـــــاً حكــيمَ الدّيـــــارِ
أغنّـــي عليهـــا (أمِــــنْ أمّ أوفى).
يختم الأمسية الدافئة بنبض القوافي وبحضور واثق رزين، الشاعر عبد المنعم جاسم الذي يتقنُ بناء الصورة، ويُحسنُ غرسَ الجَمال في وجدان السامعين، قصيدتُه “رحلةُ روحٍ”، تحملُ الحكمة وتفيضُ بالعاطفة، فأضاف إلى الأمسية نَفَسا جديدا من البيان والمعنى.
لم يكن ليل دمشق بارداً في ليل أيلول.. بل كان دافئاً، لفته عباءة صنعت من أبجديات القوافي التي لا تمل ولن تكل حتى تزور كل المحافظات، ويزدان الشعر بقوافي الحرية، ولم يكن مقدم البرنامج إلا شاعراً أيضاً، عبد الرحمن أسعد مرحباً بضيوفه بسحر الحرف وبهاء القصيدة، بالحب يلتقي ضيوفه وبكلامه يرتقي، ونرقي معه في أمسيات معرض دمشق الدولي، التي حضرها عشاق الشعر وعلى رأسهم مدير مديريات المراكز الثقافية الشاعر أنس الدغيم.