الملحق الثقافي- هفاف ميهوب:
لم يكرّس المستشرق الفرنسي “ماسينيون” أبحاثه ودراساته العميقة، عن “آلام” الشهيد “الحسين بن منصور” الملقّب بـ “الحلاج”، إلا لتعريف الغرب بهذا المتصوّف، ودفعهم للاستفادة من عمقِ فكره، وتبيان ظلم الأحكام المُغرضة التي أدانته، وتسبّبت في آلامه، ومأساة نهايته..
يشير عالم الدراسات الإسلامية، الفرنسي “روجيه أرنالديز” إلى ذلك، وإلى أن عدم امتلاكه، لما امتلكه أستاذه “ماسينيون” من معرفة عميقة بأسرارِ هذا المتصوّف، هو ما جعله يعتمد في كتابه “الحلاج – السعي إلى المطلق”، على أبحاثه ودراساته، إضافة إلى منهجية تفكيره وخواطره.
لن نذكر ما ذكره هذا الكاتب عن سيرة “الحلاج” ومحطات حياته، فجميعنا يعرف أنه وبعد أن تتلمذ على أيدي أساتذة متصوفين، خلع رداء التصوف، وانطلق في رحلةِ تبشير عرّضته لمخاطرٍ عديدة، فقد كان يُنظر لعمليات التبشير التي انتشرت آنذاك، وباختلاف أهدافها، على أنها تهدّد البُنى المؤسّساتية لكلّ ديانة.
لن نذكر كلّ ذلك، وسنكتفي بالتركيز على ما ركّز عليه الكاتب ويتعلّق، بعودة “الحلاج” من رحلته الأخيرة إلى “بغداد”، وقراره عدم القيام بأسفارٍ طويلة، وتكريس حياته للبقاء في عاصمة الخلفاء، ونشر رسالته التبشيرية:
“كان يبشّر الحشود في الأسواق والمساجد، لكن بعض المجموعات التي تبحث عما تدعم به وجودها لدى الخليفة، تسبّبت في ملاحقته، والقبض عليه، وزجّه في سجون العاصمة، ومن ثمّ، وبعد ثمانية أعوام من سجنه هذا، تمّت محاكمته، وحّكم عليه بالإعدام”..
هكذا بدأت آلام “الحلاج”، الآلام التي أشار الكاتب إلى تفاقمها في لحظات تعذيبه، قبل وأثناء إعدامه، وإلى أن المعنى الديني لها، كان سبباً في إلقاء الضوء، على كلّ تجربته الصوفية.
تبدأ فصول الكتاب بـ “سكرة الموت”، وينفي الكاتب عن “الحلاج هنا، صفة الأنا والاستعراض أو الشعوذة، ويراه صاحب رؤى تخترق العالم الخارجي، وتلتقط في العالم الماورائي، مدى غامضاً غير عالمه الباطني..
يراه كذلك، ويتجرأ بالردِ على سؤالٍ أطلقه: ياترى ما الذي يراه هذا المتصوف؟:
“إنه يشاهد موته، وبنوعٍ من البصيرة المُلهمة”.. يشاهد كيف أخذوه فجراً إلى الساحة، وقطعوا يديه ورجليه، بعد أن جلدوه مئه جلدة، وكيف علّقوه بعدها على حبل المشنقة، ليُنزلوه في صباح اليوم التالي، ويقطعوا رأسه، ومن ثمّ يلفّوا جثّته بحصيرٍ ، غمروها بالنفطِ وأضرموا فيها النار.. بعدها، يحملوا رفاته إلى أعلى المنارة وينثروها في مهبّ الريح..
إنه “سموّ البصيرة” لدى “أرنالديز”، وهو لايشكّك بهذه النهاية، وليس اعتماداً على ما قرأه عن “آلام الحلاج” بل وما تعمّق في دراسته، من أقوال ودواوين هذا المتصوّف..
في فصلٍ آخر من الكتاب “من الشريعة إلى التجلّي”، يشير الكاتب إلى أن ما لفته في قراءاته عن “الحلاج”، مقدار صرامته، وحكمته وتبصّره وعدم مساومته على نقاء الشهادة..
يشير إلى ذلك، ليتيقّن وبعد دراساتٍ عديدة قام بها، أن “بإمكان القلب البشري أن يتحمّل وديعة الإيمان، لكنه ظالم وجاهل، ولا شيء بفتحه على النور والحقيقة، إلا الإيمان بالخالق، وجوهر الذات الإلهية”.
كلّ ذلك وسواه مما قرأه الكاتب من رواياتٍ وكتبٍ عن “الحلاج”، جعله يرى أن عدم فهم الأصدقاء، وحتى الأعداء للعلم الذي كان يبشّر به، هو ما أدّى إلى الافتراءات الغبية التي طالته..
باختصار، إن ما توصّل إليه الكاتب، أو ما رآه من حقيقة هذا المتصوّف:
“قربانُ جسدٍ معذّب على مذبحِ المشنقة، والرضا الفَرِح بالألم والموت بدافع الحب، والعلاقة الوثيقة بالإله المحب، الذي يتكلّم في سرّه الخارق، عن المخلوق المحبوب، والعبادة في اتّحادٍ روحي، لربٍ يشعّ بأنظارٍ تملؤها النِعم، فوق ذاته المتسامية”..
السابق
التالي