الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
شاعر امتلك حسّاً شفيفاً، وأمسك بتلابيب شعر أصيل ينمُّ عن معرفة عميقة بكيفية توظيف أدواته وثقافته وكأنَّه يشبه ساعتي حمص القديمة والجديدة. إنَّه الشاعر ممدوح السكاف المولود بين جنبات أحياء مدينة حمص العتيقة عام ١٩٣٨. تلقَّى تعليمه في مدارسها وكان تحصيله العالي في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة دمشق عام ١٩٦٤. تعمَّق في دراسة التراث العربي والآداب الغربية، المتجليَّة في أعماله الشعرية ودراسته النقدية، ثمَّ اتجه إلى عالم التعليم ليقف على منصَّته مدرِّساً خمسة عقود قضاها في ثانويات ومعاهد واسطة العقد، فاستحقَّ بجدارة أن يكون نقيب المعلمين ثم رئيساً لفرع حمص لاتحاد الكتَّاب العرب.
شعره ونثره
نظمت قريحته شعراً كتبه برحيق المرأة وعطرها وأناقتها وجمالها وتناسقها وغموضها ونقائضها، شعر لايتنفَّس خارج كينونتها، فممدوح شاعرٌ امتلكُ وعياً رؤيوياً بما يفعله، مدرك أنَّ ما ينظّمه من شعر ليس إلا انعكاساً لمفهوم خاص يتبنَّاه حولها. أنشد في مقطوعة بعنوان الشاهدة:
الأماكن
أنا ذاهب
لأزور قبراً من قبور حبيبتي
ماتت بمهد مدينتي حمص
دفنَّاها كما في رفَّةٍ
من رفرفات الحلم
أو في الوهم
أو بوصية الداء العياء
على روابي دمعة الجولان
في إغفاءة الموتى مع الأحياء
في جبل المقطم..
ويختم المقطوعة قائلاً:
أواه يا جسداً يكفنه بكاء
من مراثي الندب
يا ندباً على جسد
يجسده رعافٌ للوطن
اتسعت دلالة المرأة في شعره الوجداني من خلال الموت الكلي ليرتبط غيابها بالأماكن الواردة الذكر،باحثاً عن الخلاص من خلال الحب وحده، ما دفع الدكتور حسين جمعة للإشادة بصفاته الأخلاقية والشخصية قائلاً: «اتصف ممدوح السكاف بالقناعة والرضا العقلي يتحكَّم بما بين يديه وتتحكَّم به، ومن يتابع تجربته سيروم فيه نبل الصفات ووهج العطاء كونه أديباً دمثاً، رقيق المعشر، صادق العطاء والمودة. في كتاباته الإبداعية نمط من التعبير الشفاف والأصيل. يتقلَّب على قلبٍ مُلتهبٍ بحبِّ الوطن، ويصارع حركة الحياة في صميم التغيير الاجتماعي والاقتصادي».
الأديب ممدوح أثار الانتباه إليه بقوة شخصيته ومزجه بين النفس الشعري القديم وهموم الحياة المعاشة، فتميَّز شعره بتراكيب فنية متينة مترابطة السبك، وألفاط قوية جزلة فصيحة تعكس ولعه بالغناء في القصيدة فيظل يراودها من جهتيها الاثنتين لتطاوعه شاهراً أمامها أغنى ماعنده. باح في لحظة من اللحظات في أذن القارئ بأنه لا يجديه شيء:
لا عزاء في الرقاد
ولا افتقاد للبعاد
ولا سكون في الضجيج
ولا مياه في الصحارى
لا عزاء
أنا خيطك الواهي، اقطعيني
واجعلي من جثتي
خزفاً لآنية الفناءْ
العبارات العامرة بالطباق على امتداد القصائد صارت سمة من سمات الأسلوب البليغ ذي المنشأ الرومانسي المتطور والمعدل من الأصل الكلاسيكي. يشحن قصيدته بغنائية رومانسية وحب أفلاطوني يتطلع إليهما من موقع الحداثة وليس من رؤية تقليدية. ورغم أنَّ ملكة الشعر حاضرة دائماً؛ إلا أنَّ الشاعر كان متحفِّظاً في غزارتها. أرادها نوعيَّة متطورة فاشتغل على التجديد والتجاوز الدائمين لتفصح عن شاعر هام طرق باب الحداثة في سورية.
قصائده
يعتبر ديوانه «في حضرة الماء» الصادر عام ١٩٨٣ من أجمل دواوينه من حيثَ الموضوع والأسلوب. يُقارب فيه المرأة ويقترب منها. يذوب في عشقها ويتشظى في مرايا جسدها. يتبخر على نار لهاثها الهادئة.
أمَّا مجموعة «الحزن رفيقي» للشاعر فقد نظمها بعد أن قطع سنواتٍ شعرية بعيدة. المجموعة تحتوي أربع قصائد أتت على شكل مطولات في مئة وأربعين صفحة تقريباً. وهي على التوالي: «الرحلة، الرؤيا، القيامة، الصوت».
أعطى «سكاف» مساراً فنيّاً متنامياً عبر عناوين المطولات، توحي بأنَّها عناوين فرعيَّة لعملٍ شعري متكامل، لا يخفى على القارئ حتى عندما يُطالعُ القصائد داخل المجموعة حيث يقف أمام عالمٍ شعريّ واحد، متآلفٍ من ألفِهِ إلى يائه، يُفضي بعضُهَ إلى بعضٍ ويشدُّ عنصرٌ منه على يد العنصرِ الآخر. ويرتِّب الشاعر قصائده الواحدة المتعددة إيقاعيّاً على التوالي: القصيدة الأولى (متَفاعلن)، الثانية: (مفاعَلَتُنْ)، الثالثة: (متَفاعلن)، الرابعة:(مفاعَلَتُنْ).
وعن تجربته رأى كوكبة من الشعراء والنقَّاد بأنَّها تستحق الدراسة النقدية والتأمل العميق، فالشاعر والناقد الدكتور سعد الدين كليب قال: إنَّ تجربة السكاف تُمثِّل واحدة من التجارب المختلفة في نمطها الجمالي ودوافعها النفسية واستراتيجيتها الاجتماعية عن الكثير من التجارب الشعرية في الشعر السوري، بدءاً من الستينيات. وتتحدد بثلاث سمات أساسية: الحسيَّة، النفسيَّة، الوجودية. أمّا النزعات الضاغطة على تجربته فتتحدَّد في خمس نزعات: الفردية ذات المنحى الرومانتيكي، الرؤيوية، التخيّلية، اللفظية، التجريبية، إضافة إلى المعنوية والفنية. إنَّها ليست خاصة بالشاعر السكاف غير أن اجتماعها بالشكل نفسه يجعلها خاصة به دون سواه.
كما رأى النقَّاد بأنَّه استقرَّ على ضفاف القصيدة حيث تجوَّل بين الرومانسية الجديدة والملحمة الدرامية التجريبية ثم السريالية وهجر الشعر العربي العمودي وسار في مساحة الحداثة الشعرية مع نزوع فني لمواكبة العصر بمنظار الوعي عبر نصوص وأساليب جديدة في العرض والمضمون ما جعلهم يرون أنَّه يعمل على تأسيس مدرسة شعرية حديثة تتطلع إلى مستقبل الحداثة الموازية للتراث مع المعاصرة. كما ظهرت فاعلية شعرية في نصوصه بمنزلة بحث تعبيري عن الذات عميق الأغوار ارتبط بترسبات حياتية تلح عليه وتستفز عقله وتهز مشاعره لإنتاج شعره الرمزي السريالي.
أعماله
صدر له تسعة دواوين شعرية: مسافة للممكن مسافة للمستحيل، نشيد الصباح، شواطئ بلادي، في حضرة الماء، انهيارات، فصول الجسد، الحزن رفيقي، على مذهب الطيف، الصومعة والعنقاء،
كما صدرت له الكتب النقدية التالية: في أصول الدراسة الأدبية، دراسة نقدية لمسرحية سليمان العيسى: ابن الأيهم، الإزار الجريح، عبد الباسط الصوفي الشاعر الرومانسي: دراسة في حياته وشعره، في تأمل الشعر: كتابات أدبية».
العدد 1159 – 12-9-2023