الملحق الثقافي- مي سعود:
أن تعيش قرب شاعر حلق عالياً في سماء الإبداع العربي والعالمي وأنت طفل وتغرف من جمال إبداعه وتعرفه عن قرب هذا ثراء ما بعده ثراء، تكبر وتمر الأيام ويزداد جمال ما كان لأنك تكتشف كم كنت محظوظاً بهذا القدر الجميل، إنه قدر رائع ويدعو للفخر أن يخلق الإنسان في بيئة راقية، وأكثر ما يدعو للفخر أن تخلق لأبوين ينتميان لنسب رفيع قي الثقافة والفكر والعطاء والعمل.
ما زالت الذاكرة تضج بجماليات الطفولة التي كانت قرب شاعرنا الراحل نديم محمد في طرطوس، ويسرني أن أقدم من هذا الفيض بعضاً مما يدل على جوانب إنسانيته ورقيه وقدرته على بلسمة الجراح والتعاطف مع الناس، وعيش همومهم.
لقد تربيت في حارة هادئة في محافظة طرطوس السوريه كانت تضم جميع أطياف المجتمع السوري، وشهادة حق يجب أن تقال كنا جميعنا أسرة واحدة بآلامنا وأحزاننا نتقاسمها كما الفرح أيضاً.
جارنا كان المرحوم الشاعر نديم محمد وكان قريباً لنا، وكنا نحن وهو وعائلة أخرى في الحي جميعاً من مدينة جبلة
ولا أعلم لماذا اختار محافظة طرطوس ليسكنها وهو الذي عاش في فرنسا وسويسرا.
نديم محمد كان أنيقاً جداً بكل شيئ، كان يختار اللون( البيج والشوكو والرمادي والبترولي)غالباً، حتى ثياب البيت كانت من هذه الألوان وكانت غاية في الأناقة، من طقوسه اليومية أنه كان يتمشى على سطح بيته صباحاً وعند العصر لم أكن أدرك وقتها معنى قيمته كنت صغيرة في الصف الأول الابتدائي، كان مرحاً ولطيف المعشر ويحكي للأطفال الكثير من القصص ويفرحهم بدلاله، أما جاره في الطابق الأول كان لديه عدد كبير من الأبناء، اختارالشاعر نديم محمد من عنده طفلة وقال له سأخفف عنك الحمل واسأل عنها بكل شيئ وكانت أكبر مني بالعمر اسمها هالة.
يستيقظ صباحاً يفطر، وبعدها يرتدي ثيابه ويجلس، تعتقد للوهله الأولى أنه سيخرج لكن لا هذا كان احتراماً منه لنفسه وللوقت وللضيف الذي ممكن أن يزوره، حيث يجب أن يكون بكامل أناقته يتناول طعام الغداء ويأخذ قسطاً من الراحه ويتأنق ويصعد إلى السطح يتمشى مع من يكون عنده من أصدقائه.
منزل بسيط لكنه يعطيك شعوراً متنامياً بالراحة والأمان، كان في الطابق الثاني على زاوية شارع فرعي، بيت نظيف مهفهف عبارة عن ثلاث غرف، لدى الدخول من الباب الرئيسي غرفة تحوي ثلاث (صوفايات)وعلى يسارها غرفة فيها طقم (صالون )بسيط زيتي اللون، وعلى يمينها غرفة فيها سريران وأريكتان وخزانة وكانت هذه غرفة نومه هو وحسيبة هي كانت زوجته التي لم يتزوجها إلا على الورق إذ كانت تعمل مدبرة منزل عنده وكي لايتناولها الناس بسوء سجلها زوجة له.
كنا نستيقظ في الليالي غالباً على أصوات ضجيج وتتأهب الحارة من رجال يقتحمون بيته قبل عام 1970 يفتشون البيت ويقلبونه رأسا على عقب وفي الصباح يعتذرون منه بتقديم بعض الهدايا الجميلة التي يحبها
كان رجال الحي يستغربون هذه الحالة ويهمسون له (ليتهم يفعلون ذلك معنا)
في أحد الأيام رآني حزينة أبكي ناداني تعالي يا مي لماذا تبكين أجبته، بعض الصبية يقولون عني (شمالية )
بعدها بيومين ناداني وقال تعالي أتحبين وديع الصافي، قلت نعم أمي دائماً تستمع لأغانيه هو وفيروز ونصري وصباح، قال إذاً اسمعي هذه الأغنيه وبدأ يردد كلمات الأغنية مع وديع وهو يغنيها حتى أفهم ما يقول، وكانت الأغنية:
(يا مرسال ياللي وجهتك صوب الشمال عرج ع ديرة عزها فاق الخيال
وبعدها ضمني بحنان الأب وقال مبسوطة ورضيانة الآن، قلت نعم، قال افرحي إذا قالو عنك شمالية)
أما صديقه الذي كان (يتمشى) معه على السطح ويزوره بشكل دائم فهو المحامي ابراهيم منصور من ريف جبلة أيضاً من قرية كرم الزياده لكنه أيضاً كان مقيماً في طرطوس.
وأذكر أن شاعرنا كان أيضاً يقف ويراقب مرور أخي يوسف ويقول (لقد طفت العالم بأسره لم أجد شاباً بوسامة وأناقة يوسف سعود).
محطات
ولد في قرية عين شقاق مدينة جبلة عام 1909م، تعلم القرآن طفلاً وتلقى تعليمه في تجهيز «الفرير» باللاذقية عام 1921 وفي جبلة 1922 وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1925 وتعلم في «اللاييك» ببيروت عام 1926 ثم أرسله أبوه على حسابه إلى فرنسا عام 1927 وبعدها إلى بيرن السويسرية لدراسة الحقوق، ولكن القنصل الفرنسي يستدعيه ثم يتلقى الشاعر عقب ذلك إنذاراً من السلطات السويسرية فيعود إلى سورية عام 1930.
في عام 1933 تبدأ حياته الوظيفية فعين كاتباً في محكمة الصلح المختلطة باللاذقية ثم يتقلب بين نقل وتعيين إلى أن يسرح من العمل سنة 1951.
إثر وفاة أبيه 1945 وأخيه توفيق 1948 أصيب بداء السل وتلقى العلاج في مصح «بحنس» اللبناني
عاد إلى العمل بعد سنوات من تسريحه فتم تعيينه رئيساً للمركز الثقافي بالحفة
اتخذ من طرطوس مكاناً دائماً لإقامته إلى أن توفى.
تعاقد مع وزارة الإعلام بصفة خبير ثقافي، توفي في 17/1/1994 ومنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى في 25/9/1994م.
من أبرز أعماله:
آلام
فراشات وعناكب
من خيال الماضي
براعم ربيع وورود خريف
آفاق
ألوان
غربة الحس
صمت الرعود
من ديوانه آلام نقتطف
النشيد الأول
هبّ من وحشة السنين غرامي وأفاقت من غفوها آلامي
أي ذئب مهمهم الشدق في صدري وسهم ممزق وضرام
هدرةٌ في جراح نفسي وجوعٌ ينهش الحس بالنيوب الدوامي
وتفح الأوجاع ملء ضلوعي كالثعابين في الرمال الظوامي
فدعوني أعصر من الخمر في جرحي فينشى بالخمر جرح غرامي
اتركوني أطفئ بنيرانها الخضراء ناراً مشبوبة في عظامي
اتركوني لليل للخمر للدمع لشهق مرّ وموت زؤام
اتركوني أطعم شعوري من الحزن وحبي فالحزن كل طعامي
أنا طيف الشقاء يرجمني الكون بلحظ البغضاء والانتقام
أنا كالإثم يرقصون على لحني ويصمون مهجتي بالسهام
أنا ما لذرة الحقيرة لا أملك أمري في المهمه المترامي
أنا كالقتل في شريعة موسى وأنا كالجحود في الإسلام
أنا مشروع صورة خطها المبدع بين الإقدام والإحجام
قبعت في الظلام آمالي الزهر وضلت سبيلها أحلامي
أين زهو الشباب أين لعابي أين لهوي بل أين أين ابتسامي؟
مات في نظرتي البريق وجفت في لهاتي مخضوضلات الكلام
يا رفيف الشعام في شفة النرجس يا غفوة الندى في الكمام
يا رجائي البكر المطهر ياعذراء حلمي يا فوق كل مرامي
بالذي لونت شفاهك يمناه وسواك فتنة للأنام
بالفتون المخضوب في خدك الأحمر ندي بالعطف حر أوامي
وأذني لي أمسح بكفي كفيك بخوف وذلة واحتشام
ومريني أنشد بحسنك أشعاري وأرفع إليك نجوى هيامي
وعديني برشف ثغرك في الحلم فقد يسعد الفتى في المنام
*****
ما لهذا الهوى يمزق أوصالي ويفري جوانحي كالحسام
ويمج اللهيب في كبدي الثكلى ركاماً ينهدّ فوق ركام
فأغنيه من دمي ويغنيني من السحر أوجع الأنغام
ما أبالي شحوب لوني وضعفي ونحولي ورقتي وسقامي
ما أبالي ضحك العواذل من شيبي وعجزي ورعشتي في الزحام
وخمودي سكران في مطلع الفجر على الشوك والحصى والحطام
أيها المشفقون
لا تلمسوا الكبر بنفسي
فتقصروا أيامي
ليس في همتي وإن وهن العظم سوى البأس والقوى والعرام
اجمعوا أمركم على جرح إحساسي وكدوا الأجلاد في إيلامي
واحذروني فربما انتفض الشر بثوبي وهاج بي إجرامي
أنا مسخ الزمان لولا الهوى العاني ووحش القلوب والأجسام
أين أمس الشهوات والرجس والفحشاء والفسق والخنى والحرام
ربّ طهر سقيت من دمه الليل وعهد خفرته وذمام
الضحيات في الخيام وفي القصر ورائي لمن يرى وأمامي
كم شفاه أخذت منها وأعطيت ففي ذمة الصبي آثامي
كنت قبل الهوى سماء من الأفكار تندى بالوحي والإلهام
فإذا بي أكاد لا أعرف النطق ولا كيف مسرحي ومقامي
تهت في النور ضعت بين رفاقي حرت حتى في ضجعتي وقيامي
أينما سرت
فالشقاء على دربي
وعض الجراح
في أقدامي
لا فؤادي يعي ولا خاطري يصحو ولا أنت تقصرين ملامي
أفيرضيك أن يحطمني اليأس وألقي في كل يوم حمامي؟
وجميل أن تأخذي بيميني للخطايا وترجعي بسلام؟
وزر الكرام
خنت من أجلك المودة والقربى وعفرت عزتي في الرغام
فازدريني واستهزئي من بكائي واقذفيني بالموبقات الجسام
غير خاف على العيون اتضاعي وخشوعي لديك واستسلامي
لم يدع لي هواك فضلة رشد لضلال أو بارقاً لقتام
ضرّج الفجر عُريه بشهاقي واستحم الدجى بدمعي الهامي
وتشظت في رهبة السهد آهاتي وفتت جذواتها في جامي
فاتركيني أعقر شبابي على الكأس وأهرم قبل ارتداد الظلام
العدد 1159 – 12-9-2023