الثورة – فاتن دعبول:
بعض الروايات تترك بصمتها في الروح قبل العقل والفكر، وخصوصاً عندما تلامس في مضمونها مشاعر إنسانية، وتكون البداية من قبر الوالدة التي غادرت الحياة جسداً، ولكن روحها لاتزال تعيش في قلب الكاتب ووجدانه، يزورها، يتحدث إليها بقلب مفعم بالحزن، يقول لها: “عليا مازال قبرك طرياً كما أنت بعد أن أرهقتكم السنون وبدلت ملامحك، خطيئتي مثل دمل في القلب، سيقتلني قيحه إن بقي، وسيقتلني إن انفجر وسال .. خطيئتي لن يمحوها إلا أنت، ليس باليد حيلة صدقيني، من منا قادر على رد الموت يا امرأة؟ لو كنت أملك ذلك كنت رددته”.
وقد استضاف فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب ندوة نقدية للإضاءة على رواية “ذرعان” للأديب محمد الحفري، بإدارة الأديب أيمن الحسن الذي بين أهمية هذه الرواية لما تتضمنه من سرد تاريخي واجتماعي لمرحلة معينة، وتوقف بدوره عند بعض الميزات التي تتسم بها هذه الرواية من سرد جميل يحاكي التاريخ والوجدان في الآن نفسه، وقد قسمت الرواية إلى مجموعة عناوين رغم أنها تفتقد للفهرس الذي ينظم هذه العناوين.
وبين الدكتور إبراهيم زعرور رئيس فرع دمشق أن من الأهمية بمكان العودة إلى بعض الروايات الهامة وتسليط الضوء عليها من خلال الدراسة والبحث للوقوف على أهم العناوين والرسائل التي تطرحها، وفرع دمشق بيت المثقف يفتح أبوابه لأي نشاط فكري جاد.
تلتصق بالبيئة المحلية..
بدوره قرأ الروائي الحفري بعضاً من روايته “ذرعان” وبين أن هذه الرواية الصادرة عن دار”تموز” هي واحدة من أربع روايات هي “بين دمعتين، العلم، البوح الأخير” وقد فازت كل واحدة منهن بجائزة باستثناء “ذرعان” التي كان لها الحظ باختيارها من قبل صندوق منحة الشارقة للترجمة، حيث ترجمت للفارسية والألمانية والكردية.
وأضاف: هذه الروايات تلتصق بالبيئة المحلية التصاق الروح بالجسد وربما هذا سبب من أسباب تميزها، كما أنها تخطت فيها الأزمنة من أيام فرنسا حتى هذه الأيام، وفيها تقنية سردية مختلفة.
وأشار إلى المكان الساحر الذي يتقارب فيه الرقاد مع اليرموك ثم تضيق المسافة بينهما ويلتقيان وخلف ذلك سهلي سعد وبطاح وعيون الماء الغزيرة.
حاضرة فينا..
وفي إضاءته النقدية توقف الدكتور عبد الله الشاهر بداية عند الغلاف الذي جاء معبرا ومطابقا لأحداث الرواية، إذ برزت فيه صورة المرأة بخطوط قاسية وعينين دامعتين وملامح شديدة القسوة، وهي تشي بالقسوة والألم والحزن، بينما جاء العنوان بلون أصفر ما يوحي إلى الإشراق والحرارة وسط ضياع كامل، لأن ذرعان لم تكن حالة حلم، بل هي استلاب أدى إلى سواد.
وقال: بالرغم من أن بناء الرواية جاء من خلال زيارة للمقبرة إلى قبر أمه ليقف أمام شاهدة قبرها، فإن أحداث الرواية تبدأ من هذا المكان حيث يترك الروائي لنفسه العنان في استعراض كل أشكال الحياة وخصوصا الخوف والقلق الذي كان يعيشه” ولدت من خوف اختلط مع الأيام بالقلق والمعاناة التي غدت دربا لحياتنا الحزينة التعيسة”.
اختراق للخط التقليدي..
ويضيف الشاهر بأن الروائي الحفري يخترق الخط التقليدي للرواية ليغير مساره من خلال تقسيمة ابتدعها وقسمها إلى ستة فصول وتلاعب في تسميتها ووصفها ليوصلنا إلى رؤية مختلفة، وضم التقسيم خاتمة النص وقد بدأت الرواية بخاتمة النص حيث كان الخطاب مباشرا للأم، ومن ثم الاستهلال، ويتبعه رأس النص ثم الحاشية ويليها ذيل النص، وأخيرا جثة وأشلاء مبعثرة وهو الفصل الأخير الذي استعرض فيه كل ما جرى من أحداث في سورية في الفترة الحالية والأساليب الإرهابية التي مورست على الشعب السوري.
في البنية الفنية..
ويعرض الشاعر في رؤيته النقدية لأبرز السمات التي تميزت بها رواية “ذرعان” وأولى هذه السمات حضور المكان الطاغي والذي هو مسرح الأحداث وهذا يترك للأجيال، كما كان هناك حضور مكثف للحياة الاجتماعية وتوصيف جميل للأمكنة، وتضمنت الرواية العديد من القصص والحكايات داخل السرد، ونلمح تنويها واضحا عن الاعتقاد بالعرافين والمشعوذين والتبرك بالأولياء والجن.
وقد استعان الروائي باللغة البيضاء وأبرز دقة في الوصف وجمالية في التعبير وشاعرية في الحزن، أما بنيته السردية فكانت مغرية جدا لما امتلكته من رسم واضح للأحداث وبواقعية شديدة، وقد أشار الروائي وبحرفية واضحة كيف أن ثقافة الحرب فرضت نفسها على المجتمع، وهي لغة دموية مخيفة.
ويختم الشاهر إضاءته النقدية بالقول إن الرواية حديث مفتوح على كل الاتجاهات أجاد فيها الروائي العرض ونوع الأسلوب وسرد حكايات دون المساس بالمسار العام للرواية بل أغنتها.
وفي الختام تفاعل الحضور وقدم البعض مداخلات أغنت الندوة وشكلت قيمة مضافة.