محمود ديبو
كثيرة هي المواقع الأثرية والتاريخية التي تزخر بها بلادنا على امتداد الجغرافيا السورية من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، ولطالما ذكرت تلك المواقع في مناسبات عدة على أنها نقاط مضيئة تدلل على عمق التاريخ الذي مر على سورية وتعدد الحضارات والشعوب التي أمت هذه الأرض الطيبة وعليها اجتمعت ثقافات وتلاقت وأعادت إنضاج ذاتها لتقدم للإنسانية نتاجات وإبداعات في مختلف مناحي الحياة.
هي إذاً إرث ثمين نتغنى به ونتباهى بتميز بلادنا بهذا التنوع الإنساني والحضاري الذي شهدته معظم المدن والمناطق السورية عبر التاريخ، وكانت خطوة مهمة أن يتم لحظ هذا الأمر في مناهجنا منذ الصفوف الأولى في المدرسة لتترسخ في الذاكرة وتعزز الشعور لدى الطلاب والتلاميذ بالانتماء لأرض عاصرت حضارات كثيرة ومر عليها شعوب وأمم وتلاقحت فوقها ثقافات أنجزت إبداعات أغنت مسيرة الإنسانية بكل ما تحتاجه خطوات النهوض والتطور والاستمرار.
ولا ننكر هنا الجهود التي تبذلها وزارتي السياحة والثقافة ومعها الإعلام في إنتاج وبث أفلام تعريفية وترويجية للكثير من المواقع التاريخية والسياحية والثقافية وإصدار مطبوعات بالصور الملونة الحديثة لها..
ولكن لعلنا في مثل هذه الظروف نكون أحوج لتثبيت هذه الشعور بالانتماء وتعزيز المعرفة لدى الأجيال بأهمية هذا النتاج الإنساني والحضاري الذي شهدته بلادنا عبر العصور، وذلك من خلال تحويلها من معرفة عن بعد تتمثل فقط ببعض النصوص والصور التي تدرج في مناهج الطلاب، لتصبح معرفة محسوسة وملموسة ومباشرة عبر تنظيم رحلات دورية للطلاب لزيارة تلك الأوابد والتعرف عليها عن قرب، خاصة في ظل الظروف الحالية التي أصبحت فيها أعباء السفر والانتقال ثقيلة على شريحة واسعة من الأسر السورية، الأمر الذي يدعونا للتفكير جدياً بدعم حقيقي لمثل هذا الأمر بحيث تكون تلك الرحلات شبه مجانية مع تحميل الطلاب رسوم رمزية جداً إن تطلب الأمر والأفضل أن تكون مجانية بالكامل..
فهي تمثل بمفهومها وهدفها العام مشروع ثقافي اجتماعي حضاري يرسخ لدى المواطن السوري منذ الصغر معان كثيرة من الانتماء ويضيف معارف جديدة للأجيال وتضعهم وجهاً لوجه مع تاريخهم وعمقهم الحضاري والإنساني الذي يعترف به كل العالم، فلماذا نبقيه قصياً عن الأجيال الحالية …؟؟
هي فكرة قد يراها البعض غير قابلة للتنفيذ بالكامل بالنظر إلى التقييدات التي تضبط عمليات الانفاق وضرورة تغطيتها ببنود محددة في الموازنات العامة لمديريات التربية وللوزارة عموماً، ولنا هنا أن نقول إنه يمكن لحظ ذلك في مشاريع الموازنات المقترحة لوزارة التربية وتخصيص بند يغطي الإنفاق على مثل هذه الرحلات التي تبدو كأنها رحلات ترفيهية لكنها في الحقيقة لها أبعاد تثقيفية ومعرفية وإنسانية سيكون لها تأثير مباشر على الأجيال القادمة..
وإن كان البعض يرى الحمل ثقيلاً على وزارة التربية في الانفاق على هذه الرحلات، فمن الممكن أن تتقاسم عدة وزارات أو جهات عامة هذه الأعباء كوزارة الثقافة والسياحة والإدارة المحلية وربما تتطوع غيرها من الوزارات والجهات العامة لتدعم هذه التوجه وتساهم مع وزارة التربية في إنضاج مثل هذه الفكرة وربما تطويرها في مراحل لاحقة..
إن بناء ثقافة عامة لدى الجمهور تتطلب مثل هذه الجهود المشتركة، وتتطلب الوصول إلى الأهداف المرجوة ببرامج عمل وخطط غير تلقينية وبعيدة عن الإلقاء أو غيرها من السبل التقليدية وإن إعداد زيارات متواترة ومنتظمة للمواقع الأثرية سيجعل من تلقف المعلومة وفهمها وترسيخها أمراً أكثر سهولة ويسر تقبل لدى الأجيال الصغيرة..