من حق الحكومة أن تجبي الضرائب والرسوم، وأن تبحث دائماً عن مختلف المطارح التي تندرج تحت هذا الإطار وتُفعّلها بموضوعية وإنصاف لتغذي بها الخزينة العامة، وهذا بطبيعة الحال – وكما هو معلوم – ليس عرفاً سوريّاً، وإنما هو عرفٌ عام تنتهجه مختلف دول العالم، ولكن من المفترض أن تنعكس هذه الواردات من الضرائب والرسوم على ازدهار البلاد، وتحسين أوضاع العباد المعيشية وتطوير الخدمات نحو الأفضل.
ولكننا نجد أن الآية عندنا معكوسة، فلا البلاد تزدهر، ولا الأحوال المعيشية تتحسّن بل نراها تزداد تردياً، والخدمات تشتدّ سوءاً، فيما توسّع الحكومة يوماً وراء يوم من دائرة جباياتها، ولا نرى إزاء ذلك أي نتائج ملموسة سوى الدفع والإنفاق بكل الاتجاهات حتى تآكلت مداخيلنا وباتت لا تقوى على تأمين سوى الجزء اليسير من الحدود الدنيا للاحتياجات، وسط تردّي الخدمات وتراجعها، حتى على مستوى الصرافات الآلية – مثلاً – التي أوجدت بالأساس من قبيل تحسين الخدمات ولكن أمام سوء أدائها وتعطلها المزمن والمستمر وخروجها عن الخدمة باتت عبئاً حقيقياً على كل من ورّطه الدهر بتوطين راتبه في أحد البنوك.
السؤال العريض الذي يجول بخاطر الكثيرين هو : أين تذهب تلك الأموال الطائلة الناجمة عن الضرائب والرسوم والفواتير المرهقة ورفع أسعار منتجات وسلع الدولة وخدماتها .. في ظل المداخيل الضعيفة التي تُثبّت الوضع المعيشي في أسوأ حالاته ..؟ ولا نسمع من الحكومة سوى أنها تمول الموازنة بالعجز .. ما يعني أن اقتصادنا مُحاطٌ بالمخاطر والصعوبات ..؟!
الذي لا شك فيه بأن تكاليف الحرب العسكرية والاقتصادية باهظة جداً، بعضها معلن وبعضها ليس كذلك، وقد ابتُلينا بهذه التكاليف منذ أكثر من عقدٍ من الزمان .. بل عقود، ولا شك بأن لهذه التكاليف أولوية قصوى مهما ارتفعت، لأنها بالنهاية تعني الدفاع عن الوطن وحريته وسيادته واستقلال قراره.
ولكن العجز في الموازنة لا يأتي جراء هذه التكاليف الحربية وحدها، إذ هناك قنوات ودهاليز أخرى تتسرّب منها واردات الدولة المالية بشكل كبير، لعل أبرزها العشوائية في الدعم والتوظيف، والتطاول على المال العام بشكل مباشر وغير مباشر، وفوات الفرص جراء الكثير من المطارح الإنتاجية الممكنة .. والمُهمَلة.
فالدعم تقوم الحكومة بمعالجة وضعه وقطعت خطوات في رحلة ترتيبه التي يبدو أنها ستكون طويلة، أما التوظيف فعلى الرغم من شحّ فرص العمل لدى الدولة فإن هناك تشوّهات عميقة في هذا المشهد عندما نرى نقصاً كبيراً في الكوادر ببعض المؤسسات في حين نجد فائضاً من العاملين في مؤسسات أخرى تشكل عبئاً عليها واستنزافاً لمواردها، وهنا كان لا بدّ من إعادة توزيع هذه القوى العاملة بعناية لتغدو فاعلة ومنتجة، واعتماد سياسة تكون قادرة على خلق فرص عمل جديدة ومجدية اقتصادياً وباستمرار، وهذا أمر ممكن جداً لو أن الحكومة تُركز على هذا الجانب بشكل جدي لاسيما وأن هناك الكثير من المطارح الإنتاجية التي يمكن إنعاشها واستثمارها على نحو جيد وعلى المديين القصير والمتوسط.
أما التطاول على المال العام فلم يعد من السهل ضبطه بعد أن تفشّى وانتشر على نحو واسع، وهنا بالفعل ليس أجدى من الأتمتة الكفيلة بضبطه إلى حد كبير، ولكن إلى أن يحصل ذلك فليس من الصعب كثيراً – إن صحّت النوايا – تطويق الأمر بالمتابعة الحثيثة والتدقيق، وحسن اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب.
مكامن عجز الموازنة تحتاج إلى جهدٍ أكبر لتلافي ما أمكن من هذه التشوّهات التي باتت أكثر من مرهقة.

السابق