الملحق الثقافي-فرات إسبر:
عبر تاريخ البشرية، لم تتوقف الحروب، بل تنوعت أشكالها وأساليبها وأُطلق عليها العديد من المصطلحات والمسمّيات، كالحروب الاقتصادية والسياسية والحروب الفكرية والثقافية، وكل هذه الحروب لم تكن يوماً لخدمة البشرية إنما لتدميرها.
الحروب لا تترك وراءها إرثاً ثقافياً أو معلماً حضارياً يُؤسس كذاكرة حضارية يمكن الاستفادة منها بالنسبة للأجيال القادمة والمستقبل، إذ لا يمكن فصل ذاكرة الماضي عن أحداث المستقبل، ففي كل مجتمع يوجد ذاكرة استحضارية، تعود إلى الماضي ويتم استحضاره عبر وقائع وكتب وصور تتنوع ما بين الذاكرة البصرية والذاكرة المكتوبة.
ودائما تنتهي هذه الحروب بفظائع كبيرة سواء بالنسبة للذاكرة المكتوبة أو الذاكرة البصرية ومن هنا ويأتي دور الفن، ليرسخ ثقافة هذه الحروب، عن طريق التأريخ أو الأدب أو السينما، وهذه الأخيرة لعبت دوراً مهماً في ترسيخ ثقافة الحروب.
ما الذي تجنيه البشرية من الحروب؟، وأيّ نصر يتحقق على هذه الأرض التي لا تهدأ من الويلات؟، ما ذنب الآلاف من البشر الذين يدفعون حياتهم ثمناً لصراعٍ لاعلاقة لهم به ليصبحوا بعدها مجرد ذكرى تعلق على جدران المتاحف وجدران التاريخ.
حكايات لا تنتهي وهي التي يمكن أن تكون مرجعاً للتوثيق على مستوى أدب الحرب من حيث أن وسائل الاتصال في الحروب قديماً كانت من خلال الرسائل التي تم ارسالها من الجنود والمحاربين إلى أهاليهم وهذه الرسائل كانت لا تصل أبداً وبقيت الرسائل بمغلفاتها الأصلية التي تحمل غبار الحروب، تُعلق على صدر متحف بارد، بكل ما فيها من مشاعر إنسانية صادقة إذ لا يمكن لأي شخص عادي أن يتخيل ما تحمله هذه الرسائل من قهر وموت وشوق وخوف تتركه الحرب في نفوس البشر والمقاتلين.
هل تدفعنا الحروب إلى الإيمان، مثل ما تدفع البشر إلى الكتابة؟، كما في حكاية الجندي المقاتل في الحرب العالمية الذي روى قصته: «بأن الكتاب المقدس أنقذه ُمن رصاصة كانت قد وجهت إليه، حيث كان يقرأ الكتاب المقدس ويتضرع إلى الله كي تنتهي هذه الحرب».
الحروب لا تغّير الحياة البشرية على الأرض فقط وإنما تغّير الروح الإنسانية فمثل هذه الحادثة، تدفع الملايين من البشر إلى الإيمان بأن الله هو المنقذ ومخلص البشرية سواء على الصعيد العام أو على الصعيد الشخصي من الحروب والويلات وعُلقت نسخة الكتاب المقدس الذي اخترقته الرصاصة في أهم متاحف العالم وهو متحف «تي بابا» وهو في نيوزلندا ولا بد من الإشارة إلى أن نيوزلندا شاركت في الحرب العالمية.
فهل تعزز الحرب فكرة الإيمان بالله، أمام ما نرى من القتل والذبح باسمه، حيث تقطع الرأس وتفصل عن الجسد؟.
للحرب ذاكرة ثقافية خاصة، إنها ذكراة معجونة بالموت والخراب والفشل والنصر الذي لا يعد نصراً، حيث يموتُ البشر دون هدف أو غاية، ومع ذلك نشهد الإرث الثقافي للحروب بتجسيدها عبر أعمال سينمائية أو قصص وروايات وحتى في الشعر وتاريخ السينما حافل بأفلام صورت بشاعةَ الحرب وويلاتها كما في «فيلم الجندي المجهول، وفيلم «وداعاً للسلاح» المأخوذ من الرواية التي كتبها «إرنست همنغواي « ونشرت عام 1929، وعازف البيانو الذي نال السعفة الذهبية، ولورانس العرب وأيضاً كما هو الحال في فيلم «كازابلنكا « حيث صور الفيلم في الدار البيضاء ويحكي عن معاناة اللاجئين من ويلات الحرب.
أفلام بديعة صّورت ووثقت الحروب وويلاتها ومع ذلك لا يمكن أن ترقى لكشف مشاعر وأحاسيس بشر عاشوا في قلب هذه الحروب، والتي أخذت منهم كل شيء وزعزعت قناعاتهم بالأرض والإيمان.
المؤرخ صموئيل هاينز يرى:»أن الحرب، هي نقطة تحول في تاريخ البشرية، بكل ما فيها من ويلات وفظائع» وهذا ما نشهده في واقعنا اليوم، مع الاختلاف في وعي الشباب لمفهوم الحرب وتوصيفها.
ونجد أن هناك تقارباً حقيقياً بين وجهة نظر «صمؤيل هربنز» عن تصوراته حول الحروب و الحرب القائمة اليوم على الإرهاب.
أية ذاكرة ثقافية سيترك هؤلاء للأجيال القادمة ؟، مهما قدمت السينما والرواية والشعر من أعمال أدبية وأفلام فإنها لن تجرؤ على الاعتراف بهذه الحرب، التي لا إرث لها ولا ثقافة غير ثقافة القتل المتعمد للحضارة والبشرية، فإذا كانت الثورات والحروب تُقام للإصلاح، فإن هذه الثورات التي شهدها عالمنا العربي، لا تصلح للتوثيق، لأنها وصمة في تاريخ الدين والبشرية مع الأعلام الذي ساهم بها وصنعها دولياً وعالمياً من خلال تمويلها، في الخفاء والعلن، وأدت إلى تدمير مدن وحضارات بكاملها كما في مدينة تدمر الأثرية التي حكمت فيها زنوبيا، لم يتركوا فيها معبداً أو معلماً تراثياً إلا وحولوه إلى ركامٍ، فمن بغداد إلى سورية إلى اليمن، نرى همجية الحرب في خطط مرسومة ومتقنة لهدم تاريخ وحضارة هذه البلدان.
إن أشد الصدمات التي تتعرض لها البشرية، بالإضافة إلى الخسارات المادية والجسدية والجغرافية، تبقى الصدمة الاجتماعية، التي تؤثر على مدى أجيال وأجيال، إذ أيّ إرث سترث الأجيال، تحت مسميّات الجهاد وقطع الأعناق وسبي النساء، المعاناة والخطورة الحقيقية تكمن في علاج من عاد معافى جسدياً من الحرب ولكنه تشوه روحياً، ومن هنا نرى الأثار السلبية الخطرة على الأجيال وصعوبة علاجها اجتماعياً، المتاحف بنيت لتحفظ تاريخ البشرية وتطورها وتراثها ومعالم هذا التطور عبر سنوات طويلة من الزمن، كما في متاحف دمشق وبغداد التي ترى فيها صورة الإنسان الأول وإبداعاته، من جلجامش إلى الفنون المعاصرة، وفي متاحف العالم كما في فرنسا وبريطانيا وألمانيا التي تجسد عظمة شعوبها وإبداعاتها من كتاب وشعراء ومفكرين وفلاسفة وأبطال الحروب الذين صنعوا السلام لبلدانهم.
لكن السؤال الذي يثير الاهتمام اليوم، لماذا دُمرت متاحفنا العربية، لماذا أُحرقت الكنوز الموجودة في متاحف بغداد ودمشق واليمن؟، أليست خطة لمحو تاريخ هذه الأمم التي شهدت حضارات البشرية الأولى، وكانت مهدها كُتب الشعراء الكثير من القصائد عن الحروب، عن موت الأصدقاء ومن أهم وأعظم القصائد التي كُتبت في تخليد الحرب كتبها الشاعر الكندي «جون ماكريه» خلال الحرب العالمية الأولى في 3 مايو من عام 1915 بعد حضوره جنازة صديقه وزميله الجندي «أليكسيس هيملر» الذي قُتل في ببلجيكا.
يقول فيها:
كنا أحياء، أحسسنا بالفجر، رأينا الأصيل يتألق
في حقول الفلاندرز، تابعوا معركتنا مع العدو
من أيدٍ خائرات نرمي إليكم الشعلة
ولتكن لكم لترفعوها عالياً.
وأن نقضتم العهد، نحن الذين نموت
القصيدة معلقة في متحف بلجيكا مع مفارقات صورة الحرب بين الأمس واليوم.
ماذا سيبقى لنا،على جدران متاحف التاريخ، هل سنعلق الرؤوس التي قُطعت أو النار التي أضرمت أو السبايا والمخطوفات من أطفال ونساء وشيوخ ، حقاً إنه زمن العار، هل نعلق الآيات والسور القرآنية والأحاديث التي تحث على القتل والجهاد والسبي!؟.
ربما ينقلب التاريخ، وتتغير صورة الحرب، لتصبح حرب اكتشافات وعلم وحضارة ونهضة، وأن يتحول ثمن هذا البارود إلى المفكرين والعباقرة لبناء مجد الإنسان.
يوجد أسئلة كثيرة مركبة ومعقدة، تدفعنا إلى الخوف من الـتأريخ، كون هذه المرحلة، تعتبر من أسوأ المراحل التي مرت بها البشرية فما الذي يمكن أن يُقدم عبر هذا التاريخ للأجيال القادمة، التي لن يكون لها ماضٍ ولا حاضر.
يبدو جلياً إن هذا التاريخ الذي يُؤسس له،هو ما عرّفه ابن خلدون بقوله:»التاريخ هو حال من أحوال عمران العالم، وما يحدث لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس، والعصبيات..»
إنها صورة واضحة، وكاشفة لعصرنا الذي نعيش فيه.
العدد 1164 – 24-10-2023