خميس بن عبيد القطيطي – كاتب من سلطنة عمان:
متابعة حركة التاريخ وحالة التدافع بين الاحتلال الصهيوني وأصحاب الأرض الأصليين من أبناء الشعب الفلسطيني تستنبط بعض الحقائق الواضحة والمؤكدة بأن هذا الكيان بدأ يحتضر ويقترب من ساعة الزوال، فقبل سبعة عقود أي في عام 1947م كان الاحتلال يتوسع من خلال المذابح التي ارتكبتها عصاباته قبل إعلان قيام ما يسمى “إسرائيل”، واستطاع تثبيت دولته بعد النكبة وحرب عام 1948م، ثم استكمل توسعه بعد مرور عقدين بعدما حقق كيان الاحتلال انتصاراً آخر في نكسة يونيو 1967م بمساندة ودعم كبيرين من قبل الإمبريالية الغربية، ومع غياب القادة العرب الذين مثلت لهم القضية الفلسطينية ركيزة في سياساتهم بدأ تراجع الدعم العربي وتوالت اتفاقيات الاستسلام بداية من كامب ديفيد الأولى عام 1978م وانتهاء بكامب ديفيد الثانية عام 2000م، وخلال هذه العقود الثلاثة تراوحت القضية من تنازل إلى آخر، والأنكى والأشد ما صاحبها من حالة تشرذم واختلافات عربية.
فقد عرف الاستعمار كيف يتسلل في صلب النظام الرسمي العربي، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لم يقدم النظام الرسمي أية نجاحات على صعيد القضية المركزية الفلسطينية في ظل غياب الثقة بين الأنظمة الرسمية وغياب العمل العربي المشترك وغياب التضامن العربي والدفاع العربي المشترك؛ هذا الخلل حدث في بنية النظام العربي واستمر خذلان تطلعات الشعوب فيما يتعلق بالقضية الرئيسية الأولى واستمرت حالة التراجع والفرقة، بالمقابل حدث تحول نوعي لافت في إطار الصراع من خلال بروز قوى المقاومة الشعبية التي تشكلت على الساحة الفلسطينية، ففي العام الأربعين لقيام كيان الاحتلال أي في العام 1987م اشتعلت شرارة الانتفاضة الأولى التي سميت انتفاضة الحجارة، وبدأ معها جيل جديد من أبناء الشعب الفلسطيني يناضل من أجل التحرير، وقد حققت تلك الانتفاضة نتائج كبرى بأنها كرست مفهوم النضال الوطني في سياق الحركة الوطنية وتأكيد مقولة ما أخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة فكان ذلك التاريخ هو الفاصل والعد العكسي لكيان الاحتلال الصهيوني؛ وفي ذلك العام تأسست حركة حماس لتكمل مسيرة النضال الذي بدأته فتح والجبهة الشعبية اللتان تأسستا في عام 1967م وحركة الجهاد التي تأسست في عام 1981م، لكن الجدير بالذكر أن انتفاضة الحجارة قد أسست لمواجهات داخل الأراضي المحتلة ومنها بدأت حركة النضال الشعبي الوطني يتطور وصولاً للعام 2000م بعد عدة سنوات على اتفاقات أوسلو التي تجاهلت الحقوق الفلسطينية وتأكد لدى أبناء الشعب الفلسطيني أن القوى الدولية التي تسمى راعية السلام هي القوى الداعمة للاحتلال والتي تكفل أمنه وبقاءه وتناور سياسياً لتسويق الأوهام للشعب الفلسطيني، لذلك اشتعلت انتفاضة الأقصى الثانية مع تدنيس أرئيل شارون لباحات المسجد الأقصى في 28 سبتمبر عام 2000م لتعلن الانتفاضة الثانية، وللمفارقة فإن انتفاضة الأقصى اشتعلت في نفس العام الذي تم التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد الثانية، وكذلك في العام تشكلت فصائل مقاومة أخرى منها أولوية الناصر صلاح الدين وكتائب أبو علي مصطفى لتستمر حركة النضال وتلك الانتفاضة لعدة سنوات فكرست تلك الانتفاضة مفهوماً جديداً في قواعد الاشتباك من خلال العمليات الاستشهادية.
ورغم استمرار الانتفاضة وما قدمته من رصيد كبير في سجلات النضال والشهداء والأسرى إلا أنها أكدت على حقيقة واحدة وهي أن الشعب الفلسطيني ماض في مشروعه التحرري متمسكاً بقضيته العادلة وحقوقه المشروعة، وسوف يستعيدها بفعل نضاله الوطني وتوج ذلك بالانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005م واستمر الاحتلال في زيادة الاستيطان بالضفة بالمقابل أصبح قطاع غزة هو القاعدة الرئيسية للمقاومة وحاول الاحتلال لاحقاً السيطرة على هذا التحول الاستراتيجي للمقاومة في قطاع غزة من خلال المعارك والاجتياحات التي نفذت على القطاع منذ عام 2008م مروراً بجميع المواجهات وصولاً إلى معركة سيف القدس، إلا أنه كان واضحاً في كل معركة أن المقاومة تحقق تقدماً ونجاحات بينما لم يستطع جيش الاحتلال النيل منها أو كسر شوكتها طوال تلك المواجهات بل إنها في كل مواجهة تبرز قدرات جديدة حتى وصلت إلى استخدام الصواريخ البعيدة التي غطت سماء فلسطين المحتلة من الجليل الأعلى إلى النقب، وكرَّست معادلات جديدة في الردع فحققت المقاومة نقلة متقدمة حسب القياسات الإستراتيجية، ولم تفلح “إسرائيل” في كسرها أو تقليص قدراتها بل إن المقاومة نجحت في إطلاق مئات الأسرى الفلسطينيين في أكثر من جولة مقابل جندي صهيوني واحد أو مقابل رفات قتلى لجيش الاحتلال وهكذا تجسدت الإرادة الصلبة لدى فصائل المقاومة، وبعد كل مواجهة كان أقصى ما تمكن الاحتلال من تحقيقه قصف وتدمير أهداف مدنية في قطاع غزة.اليوم اختلف المشهد تماماً فالمقاومة ضربت موعداً جديداً سجلت فيه المقاومة تاريخاً مفصلياً في يوم السابع من أكتوبر عام 2023م حيث أقدمت كتائب القسام على عملية نوعية نقلت المعركة إلى الأراضي المحتلة بالسيطرة على عدد من القواعد والمستوطنات، وتم القضاء على ما تبقى من أوهام الجيش الذي لا يقهر بل لم يتجرأ جيش الاحتلال التقدم داخل قطاع غزة، وباءت محاولة جس النبض قبل أيام بالفشل فقد أصبح أغلب جنود الاحتلال مرعوبين فاقدي الثقة بقياداتهم، ويلاحظ مع كل تصريح قلقهم من فكرة الاجتياح البري فما ينتظرهم هو الفشل؛ والفشل هنا يعني سقوطاً مدوياً آخر، وحتى هذه اللحظة وبعد مضي عشرين يوماً على العدوان لم يتمكن الاحتلال من الإقدام على المجابهة البرية وهذا يعني أننا أمام جيش مهزوم نفسياً مرعوب من المواجهة بعد تجارب مرعبة سابقة وذلك رغم الحشد المادي والمعنوي من قبل قوى الاستعمار الداعمة لهذا الكيان اللقيط، كما أن هذه المواجهة أكدت أن مستقبل الاحتلال في فلسطين بات مجهولاً وقد بدأت طلائع الهجرة العكسية كنتيجة لحالة الرعب من المستقبل في ظل تلك التطورات على صعيد المواجهة مع المقاومة وبالتالي فإن دولة الاحتلال الصهيوني التي تزعم أنها القوة الرابعة عالمياً لم تضمن مستقبلاً آمنا لمستوطنيها في فلسطين، لذلك يكنى الكيان الصهيوني بالكيان الطارئ المؤقت وهو يقترب من الزوال، وقد ذكر حكام الاحتلال ومنظروه وحاخاماته عقدة العقد الثامن فلم يسبق لأي دولة تجاوز عمرها العام الـ80 وبالتالي فهذا الكيان يعيش في حالة رعب وعدم ثقة أكدتها المواجهة الأخيرة معركة طوفان الأقصى.
لقد انبرى قادة قوى الاستعمار في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبقية قوى الاستعمار إلى إعلان تضامنهم العاجل فأصدروا بياناً مشتركاً داعماً لكيان الاحتلال الصهيوني المجرم وذلك تأكيداً على مشاركة هذه القوى في الجريمة التي تنفذها الصهيونية المجرمة ضد المدنيين الأبرياء في قطاع غزة لذا يجب تسمية الأشياء بمسمياتها فقد أعلنت قوى الاستعمار الغربية وقوفها ودعمها للجريمة الفجة في قطاع غزة، ورفضت وقف إطلاق النار وهي تنفذ الحملة الصليبية العاشرة بعد حملتها التاسعة على العراق عام 2003م، اليوم تنفذ حملتها الشرسة على المدنيين في قطاع غزة أمام مرآى العالم، واستخدمت مختلف الذخائر والقنابل في حملة إبادة وتطهير عرقي فقامت بمسح مربعات سكنية عن وجه الأرض وطمرت معها كل من يتواجد بها من أطفال ونساء وشعب أعزل في حملة إبادة عنصرية تتعارض مع كل الأعراف والقيم الإنسانية الدولية في تحالف قوى الأحزاب والعدوان على قطاع صغير المساحة؛ وبالتالي فإن هذا التحشد الغربي لمساندة كيان الاحتلال يؤكد حقيقة واحدة أن قوى التحالف الغربي المجرمة أدركت في هذه اللحظة أن هذا الجسم الغريب قد حانت لحظة زواله واستئصاله وهذا يعني استئصال مشروع استيطاني تم زرعه منذ 75 عام ومهدت له قوى الاستعمار منذ مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897م وشرعته بمؤامرة وعد بلفور عام 1917م وبعد مرور سبعة عقود وانتصار حركة النضال الوطني الفلسطيني وانتصار إرادة المقاومة الفلسطينية التي زعزعت كيان الاحتلال كان لزاماً أن تتدافع قوى الاستعمار في حماية هذا المشروع السرطاني الذي حانت لحظة زواله واستئصاله، لكن هل تعتقد هذه القوى الغربية أنها ستتمكن من الوقوف أمام إرادة الشعوب في الحرية والكرامة؟!
التهافت الغربي على نصرة كيان الاحتلال المارق يسجل أيضا حقيقة أخرى أن هذا الكيان بدأ مرحلة الاحتضار وأن ما يمارسه من فاشية سادية ضد الأبرياء هي محاولة فاشلة لاستعادة ثقته بنفسه وثقة مستوطنيه؛ هذا الكيان يمتلك كل القدرات العسكرية في تدمير وإزالة مساحات من الأرض بمختلف الأسلحة ولم يتورع في استمرار جريمته ظناً منه أن هذا العدوان سوف يعيد له أمنه واستقراره لكن هيهات ويد الأبطال على الزناد فقد فات الأوان والقادم أدهى وأمر ولاشك أن أصحاب القضية ماضون في تحقيق مشروعهم العظيم، وتلك المعركة التي دمرت كل شيء في قطاع غزة لم تتمكن من النيل من رجال المقاومة الذين زكُّوا أنفسهم في سبيل الله من أجل المشروع الأعظم وهو مشروع تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، لذا فإن كل قدرات العدو الصهيوني وداعميه من قوى الإمبريالية الذين يهرعون يومياً إلى المنطقة لتقديم الدعم المعنوي للكيان العنصري الفاشي لن يتمكنوا من مجابهة الفئة الصابرة الصامدة المحتسبة وما النصر إلا من عند الله، وهؤلاء صبروا ونذروا حياتهم في سبيل الله فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا، وقد اتضح بالفعل أنه بعد 20 يوماً على العدوان الصهيوني واستمرار مجازره بغطاء من قبل دول العدوان الأمريكي الأوروبي لم تحقق له هذه الهجمة الإرهابية تدمير موقع واحد لكتائب القسام، وكل ما يتشدق به متحدث جيش الاحتلال مجرد تطمينات ومحاولة لاستعادة الأمن المفقود، والتسويغ لاستمرار الإرهاب بدعم دولي معلن لإسقاط المزيد من الضحايا المدنيين الأبرياء من الأطفال والنساء وهذا ينم عن حالة فشل وهزيمة نكراء وحالة هبوط للروح المعنوية تأكيداً على أن الكيان الصهيوني بدأ يحتضر فانتظروا يا بني صهيون سنوات سوداء قبل انتهاء العقد الثامن وإن غداُ لناظره قريب.
حاملات الطائرات والبوارج الغربية التي جاءت لتقدم الدعم السياسي والمعنوي للمشروع الصهيوني ومحاولة التأكيد لهذا الكيان ومستوطنيه أن قوى الاستعمار الغربي ما زالت توفر الأمن وتحاول إعادة الثقة للمستوطنين، لكن سوف يسجل التاريخ أن معركة طوفان الأقصى هي نذير شؤم لكل قوى الطغيان وقد كسر شوكتها أبطال المقاومة الفلسطينية فهنيئاً لكم أيها الأبطال هذا الانتصار العظيم والقادم أدهى وأمر على عدوكم وهنا لابد للمقاومة الباسلة في الضفة الغربية بإشعال الأرض من تحت أقدام الصهاينة فهي المعركة قبل الأخيرة التي يعقبها النصر، كما نكرر النداء العالمي للشعوب الحرة بالمسارعة لوقف نزيف الدماء ولاشك أن الدول العربية والإسلامية تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية والإنسانية العاجلة بممارسة الحدود الدنيا من تلك المسؤوليات، وإنني أطالب هنا بعقد اجتماع عاجل لمنظمة المؤتمر الإسلامي وإعلان بيان يتضمن وقف إمدادات النفط وسحب سفراء الدول الإسلامية للدول الداعمة للعدوان على قطاع غزة بشكل عاجل واستخدام ورقة الشعوب الراغبة في الدفاع عن المقدسات ومناصرة الأشقاء من أبناء الشعب الفلسطيني المحاصر المنكوب الذي يتعرض للإبادة فلابد من الدفاع عن أولئك الأطفال والنساء والمدنيين العزل الذين تستهدفهم قاذفات العدو في كل حين دون أي مراعاة لأدنى قيم الإنسانية ونصرة الأشقاء وهنا المسؤولية الأخلاقية تفترض على الجميع النصرة وعدم تركه شعبنا الفلسطيني وحيداً أمام هذه الجريمة الإرهابية المنكرة.
* المقال ينشر بالتزامن مع صحيفة الوطن العمانية ورأي اليوم