تتزامن المجازر الإسرائيلية الحالية في غزة مع ذكرى مجزرة كفر قاسم التي ارتكبها الجيش الصهيوني أواخر شهر تشرين أول/ أكتوبر عام 1956، والتي وثقتها مجموعة كبيرة من الوثائق المصورة لما نشرته الصحافة العربية تحت الاحتلال، والصحافة الإسرائيلية الناطقة بالعربية، وكذلك أشرطة سينمائية إسرائيلية المصدر تصور إحداها الاستقبال الاحتفالي الذي حظي به قائد الكتيبة التي ارتكبت المجزرة من قبل زملائه في جيش الاحتلال بعد انتهاء محاكمته أمام محكمة إسرائيلية..
بلا شك أن مجرد الحديث عن محاكمة ضابط إسرائيلي أمام محكمة إسرائيلية عن جرم ارتكب ضد العرب يقدم مادة مرغوبة لعشاق إسرائيل والمتشدقين بالحديث عن ديمقراطيتها وعدالتها، وحتى عن رسالتها الإنسانية، وفي المقدمة منهم بعض العرب الذين يأملون أن تمسح من الذاكرة الجماعية كل صورة مغايرة لما يروجون له، ولكن قبل الغرق في الأمل الكاذب لنعد أولاً إلى حكاية المجزرة، ثم إلى الحكم الذي أصدره القضاء الإسرائيلي (العادل) بحق مرتكبيها، و تحديداً بحق قائد الكتيبة الذي أصدر أمر ارتكابها..
ليست مجزرة (كفر قاسم) أكبر المجازر التي ارتكبها الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني، ولا الوحيدة بطبيعة الحال، إلا أن ما يجعلها مختلفة أن سابقاتها (دير ياسين مثلاً) قد ارتكبت من قبل العصابات والميليشيات المسلحة ك(شتيرن) و(الهاغاناه) وسواهما، بينما ارتكبت مجزرة كفر قاسم من قبل جيش إسرائيل النظامي بما لم يتح للدولة الصهيونية التملص من مسؤوليتها عن الجريمة، غير أن قتل مدنيين عزل يؤكد أن البنية (الثقافية) الإجرامية للعصابات الصهيونية هي ذاتها بنية الجيش الرسمي. وهو أمر أثبتته الوقائع لا وجهات النظر، وتثبته اليوم، وشواهده منتشرة في المدارس والمصانع والقرى والأحياء السكنية، وحتى في مقار الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية في فلسطين المغتصبة ودول الجوار العربي : لبنان وسورية والأردن ومصر..
أما الاختلاف الأكثر أهمية فيتمثل في أن المجازر السابقة لكفر قاسم التي أدت لتهجير نحو ثمانمئة ألف من أبناء فلسطين عن أرضهم، قد ارتكبت خلال حرب اغتصاب فلسطين، فيما ارتكبت مجزرة كفر قاسم بعد ثماني سنوات من انتهاء تلك الحرب وقيام الكيان الصهيوني الذي صار مسؤولاً بحكم القانون الدولي عن تلك القرية المحتلة الواقعة على بعد عشرين كيلو متراً من مدينة يافا في المنطقة التي تعرف بالمثلث والتي فشل الصهاينة فيما سبق بتهجير سكانها العرب، فلما لاحت لهم الفرصة – أو هكذا اعتقدوا- لجؤوا إلى أساليبهم الإجرامية التقليدية وكانت المجزرة..
الفرصة التي لاحت للصهاينة هي من ذات البنية العدوانية الإجرامية للكيان الصهيوني، إنها حرب السويس التي قامت فيها إسرائيل بدور المقاول لقوتين استعماريتين كانتا على وشك الأفول، في مواجهة بلد عربي مارس حقه الشرعي في السيادة على أرضه، فاجتاح جيشها الأراضي المصرية دون أي مبرر غير الطبيعة العدوانية للكيان الإسرائيلي..وفي ظل الحدث الذي شغل العالم أعدت العدة للمجزرة فأصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي ل(كفر قاسم) أمراً بمنع التجول اعتباراً من مساء اليوم الذي صدر فيه الأمر، في وقت كان قسم كبير من أبناء القرية يعمل في الحقول البعيدة غافلاً عما يعد له، وحين عادوا إلى قريتهم بعد مغيب الشمس كان في انتظارهم على أبوابها جنود كتيبة حرس الحدود الإسرائيلية سيئة الصيت (كغيرها من وحدات الجيش الإسرائيلي) الذين أنزلوا الرجال والنساء والأطفال من سيارات الشحن التي كان تقلهم ثم قاموا بإطلاق النار عليهم فأردوا في دقائق قليلة تسعاً وأربعين ضحية من النساء والرجال والأطفال..
لم تنجح الجريمة المروعة في تهجير باقي سكان القرية الذين ما يزالون حتى اليوم يواجهون مؤامرات الصهاينة المتتالية لإفراغ فلسطين من أصحابها الشرعيين، وبفعل نضالهم، والرأي العام العالمي المندد بالجريمة، اُجبرت الحكومة الإسرائيلية على عقد محاكمة لمرتكبي المجزرة، وسارعت الصحافة المتصهينة بالترحيب بديمقراطية إسرائيل وعدالتها، ولم يتوقف هذا الحديث حتى بعد صدور الحكم بحق قائد الكتيبة الذي أصدر أمر ارتكاب المجزرة، وكان الحكم تغريمه قرشاً واحداً(أغورة).
على الدوام يرتكب الكيان المجرم عشرات المجازر الأكثر بشاعة من كفر قاسم، دون أن يخشى أي من عسكرييه تغريمه ولو ب(أغورة) واحدة، فما من رأي عام يجبر الكيان الصهيوني على إيقاف عدوان همجي وقد أصبح هذا الرأي العام مسلوب الإرادة أمام هيمنة الحكومات الداعمة للعدوان على معظم الإعلام، وعلى وسائل التواصل الإجتماعي.