الثورة – ديب علي حسن:
فصل الخير والمطر وغير ذلك مما في قاموس محبي الشتاء, نعرف ذلك, إنه كما كنا نكتب في موضوعات التعبير (لولا دموع الشتاء ما كانت أزاهير وثمر الصيف)، ومما لاشك فيه أن للشتاء محبيه, وأن له طقوسه الساحرة حين تتوفر الكثير من مقومات الكينونة في البيت, دفء يقوم على الحطب في القرى حين كانت القرى قرى, والمازوت الذي كان فقط لسكب كمية منه على الحطب ليشتعل, وغير ذلك من المستلزمات التي لم تعد موجودة.
ومع كل ما سبق، لكنه لم يكن موضع ألفة عند الكثير من المبدعين, وفي هذه العجالة وددنا أن نتوقف عند ملامح الشتاء عند ثلاثة شعراء, اثنان منهم مهجريان أيوب ونعيمة, والثالث السياب الذي أعطى المطر بعده السياسي, وإن كان أيوب ونعيمة قد فعلا ذلك، لكن موارة الثلج في الغربة برد وصقيع عند رشيد أيوب, وهو حنين لكل طقوسه في الوطن:
باللهِ عَنّي قُل لإخواني
ما زالَ يرعى حرمةَ العهد
يا ثلجُ قد ذكّرتني الوادي
مُتَنَصّتاً لِغَذيرِه الشّادي
كم قد جَلَستُ بحضنه الهادي
فَكأنّني في جَنّةِ الخُلدِ
يا ثلجُ قد ذكِرتني أمّي
أيّامَ تقضي الليلَ في همتي
مشغوفةً تحَارُ في ضَمّي
تحنو عليّ مَخافَةَ البردِ
يا ثلجُ قد ذكّرتني الموقِد
أيامَ كُنا حَولهُ نُنشِدِ
نعنو لَدَيهِ كأنّهُ المسجِد
وكأنّنَا النُّسّاكُ في الزُّهدِ
يا ثلجُ أنتض بثوبكَ الباهر
ونقائهِ كطويّةِ الشاعِر
لَو كنتَ تدري الناس يا طاهر
لبعدتَ عنهم أيّما بُعدِ
أما ميخائيل نعيمة فهو الذي اتخذ الإجراءات كلها ليكون الشتاء دافئا حنونا عليه, من البيت الريفي إلى كل ما يستلزم الأمر يقول نعيمة:
سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر
واسبحي يا غيوم واهطلي بالمطر
واقصفي يا رعود لست أخشى خطر
سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر
من سراجي الضئيل أستمد البصر
كلما الليل طال والظلام انتشر
وإذا الفجر مات والنهار انتحر
فاختفي يا نجوم وانطفي يا قمر
من سراجي الضئيل أستمد البصر
باب قلبي حصين من صنوف الكدر
فاهجمي يا هموم في المسا والسحر
أنشودة المطر
أما السياب فيكاد يكون الشاعر العربي الوحيد الذي قرأ المطر بلغة وجماليات أخرى, جدلية العطاء والحرمان, وتمثل أنشودة المطر فتحا جديدا في الحداثة الشعرية العربية وفي الأحزان التي عاشها الشاعر ومعه المجتمع, ولكن الأمل يزرع بذور الغد, لابد أن هذا المطر سيوفر الحياة الحرة الكريمة للأجيال, المطر نار ثورة الشعب على المستغل, على الظالم, على كل ألوان العبودية:
أتعلمين أيَّ حُزنٍ يبعث المطرْ؟
وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر ؟
وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ ؟
بِلا انْتِهَاءٍ كَالدَّمِ الْمُرَاقِ ، كَالْجِياع ،
كَالْحُبِّ ، كَالأطْفَالِ ، كَالْمَوْتَى هُوَ الْمَطَر !
وَمُقْلَتَاكِ بِي تُطِيفَانِ مَعِ الْمَطَر
وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ
سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالْمَحَار ،
كَأَنَّهَا تَهمُّ بِالشُّرُوق
فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ .
أصيح بالخليج : ” يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! ”
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـه النشيجْ :
” يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى … ”
أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ،
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ
لم تترك الرياحُ من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تَئِنُّ ، والمهاجرين
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع ،
عَوَاصِفَ الخليج ، والرُّعُودَ ، منشدين :
” مَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
وفي العِرَاقِ جُوعْ
وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصادْ
لتشبعَ الغِرْبَان والجراد
وتطحن الشّوان والحَجَر
رِحَىً تَدُورُ في الحقول حولها بَشَرْ
مَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ ، مِنْ دُمُوعْ
ثُمَّ اعْتَلَلْنَا خَوْفَ أَنْ نُلامَ بِالمَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارَاً ، كَانَتِ السَّمَاء
تَغِيمُ في الشِّتَاء
وَيَهْطُل المَطَر ،
وَكُلَّ عَامٍ حِينَ يُعْشُب الثَّرَى نَجُوعْ
مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ .
مَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
في كُلِّ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَر
حَمْرَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ مِنْ أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وَكُلّ دَمْعَةٍ مِنَ الجيَاعِ وَالعُرَاة
وَكُلّ قَطْرَةٍ تُرَاقُ مِنْ دَمِ العَبِيدْ
فَهيَ ابْتِسَامٌ في انْتِظَارِ مَبْسَمٍ جَدِيد
أوْ حُلْمَةٌ تَوَرَّدَتْ عَلَى فَمِ الوَلِيــدْ
في عَالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، وَاهِب الحَيَاة !
مَطَر …
مَطَر …
مَطَر …
سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر …