تطالعنا الأخبار كل ساعة بجديد جديدها في خبر عاجل، أو قصة مؤثرة، وهي تأتي إلينا من تلقائها دون عناء البحث عنها مادامت الشاشة الفضية تلتمع بأضوائها، وشاشات الأجهزة الذكية تبث نبضاتها.. والقصص عن أطفال غزة في ظل ما يجري، وما يشهدونه من أحداث تفاجئنا بأن هؤلاء الصغار قد نضجوا قبل الأوان، فلا نستغرب عندما يقول أحدهم، أو إحداهم أنهم متمسكون بحقهم في أرضهم، وإنهم لن يغادروا بلادهم. وأمر كهذا نستطيع أن نرجعه إلى الممارسة الحقيقية التي رأوها على أرض الواقع، والمواقف الثابتة والواضحة التي عايشها الصغار من خلال أهاليهم، وأبناء مجتمعهم الرافضين أن يستسلموا للعدو الغاصب فأصبح هؤلاء نماذج يقلدها الأبناء، ويقتدون بها.
لاشك أن النموذج الإنساني المثال ضرورة قائمة في كل المجتمعات على تنوعها وتباينها، وهو مصدر إلهام قوي للأفراد يحثهم على اتباع خطوات مشابهة لخطواته ما يدفع بدوره باتجاه التغيير الاجتماعي عندما تتسع الدائرة، وينضم إليها المزيد من أبناء المجتمع، بينما الفرد المثال يستمر من خلال ممارساته السلوكية العملية بتحفيز الآخرين ممن لا زالوا يقفون على حدود الدائرة، ولم ينضموا إليها بعد. أما القصص الملهمة فهي تتوالد، وتتواتر بين الناس في تفاعل إيجابي يتنامى مع مرور الوقت.
وبشكل عام.. فبما أن النموذج الإنساني هذا قادر على تغيير النظرة العامة في المجتمع حيال أمر ما، كما هو قادر على إلهام الناس للقيام بأفعال إيجابية، فإنه بالتالي يمكن أن يصبح مصدراً مهماً أيضاً للتغيير الاجتماعي.
وكما تتباين نماذج البشر فإن النموذج القدوة يختلف بين شخص وآخر تبعاً للخلفية الثقافية، والفكرية، والتجارب الحياتية، وأولويات القيم المجتمعية، فمن يصلح للاقتداء به بالنسبة لأحدهم قد يكون مختلفاً عما يصلح لآخر.
فمن يتميز مثلاً بقدرة كبيرة على العطاء والمساعدة يصبح نموذجاً مثالياً لها، ومَنْ يتمتع بقدرة متميزة على القيادة والتأثير على الآخرين يكون مثالاً للقائد البارع الذي تقتدي به الأجيال، ومَنْ يقاوم ببسالة، وشجاعة، وتضحية في سبيل حقه في أرضه يصبح البطل المثال، وغير ذلك كثير.
إلا أنه من المهم أن ندرك أن النموذج الإنساني المثال ليس مطلقاً، ومثالياً بلا عيوب بل هو مجرد شخص عادي لكنه تميّز بصفاتٍ وقيمٍ تلهمنا، وتحثنا على التطور، والنمو في مرحلة ما، وأنه يمكن أن يتغير، ويتطور مع مرور الزمن، وتغيّر الظروف، والاحتياجات، ولذلك يتم تأثرنا بشكل مختلف من قبل أشخاص مختلفين في مراحل مختلفة من حياتنا، وقد نجد أن النموذج الإنساني المثالي يتغير مع تطورنا الشخصي، والمهني.
ومن بين العوامل التي تؤثر في تحديد ملامح النموذج الإنساني المثالي للأفراد ما يتعلق بالقيم السامية، والأخلاق الرفيعة، ولما كانت الثقافات تتباين بين مجتمع وآخر فإن النموذج تتباين بالتالي ملامحه بين هذه الثقافة وتلك. أما البيئة والتأثيرات الاجتماعية فهي تتوجه إلى مَنْ يلبي لها تطلعاتها المثلى لتقتدي به.
أما الشخصيات التي يُحتذى بها فهي ليست بالضرورة أن تكون من خارج البيئة الضيقة للفرد كالشخصية العامة مثلاً إذ يمكن أن تكون من دائرة الأسرة، أو الصداقة، أو العمل، أو الجوار، أو ما شابه، وهذا بالتالي تحدده الاحتياجات الشخصية، أو المهنية كالحاجة إلى صفات بعينها مثل الثقة بالنفس، أو القدرة على التحمل، أو اتخاذ القرارات، أو الشجاعة في المواجهة دون تردد أو خوف، وغيرها.
وفي ظل ما يجري في أرضنا المحتلة فقد أصبح النموذج الذي يدافع عن وطنه هو القيمة العليا، وهو المثال الذي تتجه نحوه الأنظار، وتهفو النفوس لدى الصغار قبل الكبار للسير على خطواته.. فالنموذج المثال ماثل فوق الأرض، ووجوده بهذه القوة يغدو عاملاً أساسياً مؤثراً في تعزيز قناعات تتشكل الآن لدى أجيال ستكبر، وأخرى ستأتي من بعدها لتصبح القيم الوطنية جزءاً أصيلاً من هويتهم الشخصية.
* * *