الثورة – ديب علي حسن:
مرت منذ أيام ذكرى رحيل واحد من أهم شعراء الحداثة العربية، بل ركن مؤسس لها، مع مجموعة من مبدعين آخرين، بعد أن نضجت شروطها الاجتماعية – ونعني الوثبة إلى شعر التفعيلة.
بدر شاكر السياب الشاعر العراقي الأسطورة في كل شيء.. مرت ذكرى رحيله وكثر الحديث عنه وعن حبيبته التي ألهمته أنشودة المطر.
وأذكر أنني ذات يوم ذكرته أمام شاعرنا الراحل سليمان العيسى فقال لي: كان زميلي في دار المعلمين العليا ببغداد وتحدث كثيراً عنه.
ومنذ أيام استعاد الشاعر السوري بيان الصفدي مشاركة مقال منشور في الشرق الأوسط، يتحدث عن ملهمة ملحمته أنشودة المطر..
والمقال ليس للأستاذ بيان الصفدي، إنما مشاركة واحتفاء بالشاعر.
ومن قطوف النقد الذي تناول أنشودة المطر الخالدة نقتبس.. وقبل الاقتباس، تروي المواقع أنه أرسل القصيدة إلى مجلة الآداب البيروتية، وكتب رسالة إلى رئيس تحريرها يتمنى نشر القصيدة على الرغم من طولها:
(لعل قصيدة من قصائد السياب لم يتح لها من الشهرة والذيوع على الألسنة والأقلام ما أتيح لقصيدته «أنشودة المطر»، التي نشرت في مجلة الآداب البيروتية في عام 1954، تأكيداً لريادة السياب، كانت الصورة الشعرية التي استهل بها السياب «أنشودة المطر» جديدة ومفاجئة، وفي الوقت نفسه عميقة الارتباط ببيئة السياب الأولى ومخزون دلالاتها في وجدانه «فالنخيل» ميراث حضاري وشعري في ذاكرة السياب، ورمز للعراق الذي يحمله في أعماقه حيث ارتحل أو اغترب، والعينان اللتان يشير إليهما السياب بوصفهما غابتي نخيل، لا ندري هل هما عينا محبوبة بعيدة، أم هما عينا بلدة أو وطن. لكل من التصورين أنصاره المتحمسون له في الولوج إلى مدخل القصيدة. لكن عالم القصيدة يتسع لمختزنات الطفولة البعيدة عند السياب، بصورها القاسية ووقائعها الأليمة المرتبطة بفعل المطر الذي يفجر الحزن ويشعر الوحيد فيه بالضياع وتتراكم من خلاله صور متداخلة للدم المراق والجياع والحب والأطفال والموتى.
ويستدعي السياب في هذا الموقف رحيل أمه المبكر – وهو في السادسة من العمر- والتي كان يسأل عنها لشدة تعلقه بها فيقولون له: ستعود بعد غد، وهي العبارة نفسها التي سجلها في قصيدته «أنشودة المطر» بعد اثنين وعشرين عاماً من وفاة أمه.
ولأن كل ما هو جميل يموت، فإن المطر – رمز الحياة والخصوبة- يصبح في قصيدة السياب رمزاً لتراكم الأحزان والحديث الفاجع عن الموت! إنها إذاً تراجيديا المطر، أو بكائية المطر لا أنشودة المطر.
يختلط فيها الخاص بالعام والذاتي بالجمعي، والوتر المنفرد بالأوتار المصاحبة، ويبلغ فيها الإيقاع ذروته والسياب يكرر في مقاطع قصيدته فعل المطر بمقابلة اللغة حين يقول:
مطر.. مطر.. مطر.. فيصبح «نصف التفعيلة» في بحر الرجز الذي قامت عليه القصيدة موسيقياً أفعل في الوجدان من عباراة شعرية طويلة تحاول أن تصور فعل المطر وهطوله وتدفقه.
لقد وجد السياب في كلمة «مطر» ذاتها وفي تكرارها على هذه الصورة المأساوية التي لم نألفها من قبل في كل شعر المطر- في ديوان الشعر العربي- حين يقترن المطر هنا بالحزن والموت والتراب واللحود وعظام الغرقى التي يطرحها الخليج على الرمال.
هل كان السياب يدري وهو يبدع «أنشودة المطر» أنه يجاوز شعر الحالة والمقام إلى شعر النبوءة والخطاب الدائم؟ هل في تصوره الشعري والدلالي- إبان الخمسينيات الأولى من القرن العشرين- أن رصده للجوع في العراق سيبقى نذيراً فاجعاً، ونبوءة قاسية محلقة، كغراب أسود ينعق بالبين والخراب والرحيل؟ المؤكد أن «السياب» لم يشغل نفسه بهذا كله، كل ما نعرفه أن المبدع العظيم فيه كان يمارس فعله الإبداعي الرائع، فكانت قصيدته الفريدة «أنشودة المطر» نبوءة فاجعة ومتلاحقة، كلما كان المطر عن العراق).
من الأنشودة
تثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ.
كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام:
بِأنَّ أمَّـهُ التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ
فَلَمْ يَجِدْهَا، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال
قَالوا لَهُ: ” بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ.. ”
لا بدَّ أنْ تَعُودْ
وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ
في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ
تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر؛
كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك
وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفلُ القَمَرْ.
مَطَر…
مَطَر…
أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر؟
وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر؟
وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ؟
بِلا انْتِهَاءٍ كَالدَّمِ الْمُرَاقِ، كَالْجِياع،
كَالْحُبِّ، كَالأطْفَالِ، كَالْمَوْتَى هُوَ الْمَطَر!
وَمُقْلَتَاكِ بِي تُطِيفَانِ مَعِ الْمَطَر
وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ
سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالْمَحَار،
كَأَنَّهَا تَهمُّ بِالشُّرُوق
فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ.
أصيح بالخليج: “يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ، والمحار، والردى!”
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـه النشيجْ:
” يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى…”
أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ،
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ
لم تترك الرياحُ من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ.
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تَئِنُّ، والمهاجرين
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع،
عَوَاصِفَ الخليج، والرُّعُودَ، منشدين:
” مَطَر…
مَطَر…
مَطَر…
وفي العِرَاقِ جُوعْ
وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصادْ
لتشبعَ الغِرْبَان والجراد
وتطحن الشّوان والحَجَر
رِحَىً تَدُورُ في الحقول حولها بَشَرْ
مَطَر…
مَطَر…