الثورة – هفاف ميهوب:
منذ طوفان الأقصى، وشعراءُ الوطن الفلسطيني، لايملكون سبيلاً للذودِ عنه وكفكفة وجعه، سوى رصاص القصيدة التي يصوّبونها باتجاه عدوّه الصهيوني.. الشعراء الذين غرّبهم هذا العدو عن وطنهم، فأرّقتهم صور القصفِ المتواصلِ على أبناء شعبهم، مثلما صمت المدى أمام ضجيج الموت وجبروته، ولا سيما في “غزّة” التي عنون كلّ شاعرٍ بها قصيدته..
هذا ما فعله كثرٌ من شعراء فلسطين، ومنهم الشاعر والروائي “أنور الخطيب” الذي كان أبرع من جسّد معنى “الشوق المزمن” بين المبدعين. أيضاً، الذي تشظّى ألماً مُذ غرست الغربة في قصائده عذاباتها، وصولاً إلى ما رآه يحصل في غزّة، حيث عرس الشهادة وزغاريد الدماء، تضرّج الكون بقافيتها:
“غزّة عروسٌ حمّرت شفتيها بدمِها/ قالت لعريسها الشهيد: قبّلني القُبلة ما قبل الأخيرة/ فقال: ولمن الأخيرة/ قالت: لابني الذي لم أحمل به بعد..
غزّة دميةٌ تلهو مع طفلتها الميتة في المهد/ غزّة ملكةُ جمال الشهيدات/ تقفز من لحدٍ إلى لحد..”..
يغادرُ الحلم شاعرهُ المرهق من شدّة الغضب، فقد أشاح عنه إلى الشّعر، مضمضماً “سيدة التعب”.. فلسطين التي اغتصبها الوحوش وخلعوا عنها فرحها، فدثّرها بالقداسة وهو يُنشدها:
“غزّة صارت بلا جهات/ غزّة أجمل وهي سافرة/غزّة تفتحُ باب التاريخِ على مصاريعه لتكبر المزبلة/ تقفلُ باب الجغرافيا على الأنبياءِ الهاربين كي تتسع المعضلة..
غزّة تكتب الآن قصّتها مع البحر والصحراء والحقول الراجلة/ ترسمُ حقلَ الطحين سنبلة سنبلة/ تهيّءُ للشعراءِ قصائدَ عشقٍ مؤجّلة/ ولليتامى أمهات المرحلة/ غزّة الآن تكتب سورة الزلزلة../..
إنها التراتيل التي أعادته إلى “رحلة الجذور” حيث “رائحة النار وصراخ الذاكرة”.. النار التي اندلعت في أرضه، مُذ احتلّها العدوّ فأقسمت أن تحرقه، والذاكرة التي أيقظها أنين غزّة، بل وصرخة ألمها التي توجعه:
“غزّة الآن نائمةٌ فوق هامِ الشراع/ ترتّلُ آياتها فوق صواريه/ تفردُ دمعها سجادة للصلاة/ تنثرُ دمها في شواطيه..
تأكلُ مما تيسرّ من جمرها/ لا تتدلّلُ على الله/ غزّة منذ اعتراها المخاض/ تهيّءُ للصبحِ قوافيه”..
قلِقٌ هو “الخطيب”، وصلاة قصائده بأجمعها، جعلته شاعراً مسكوناً بفلسطين، وربّما لهذا يشعر بأنه يكاد ينفجر، وقد يكون سبب شعوره هذا، صوتها الذي يحيا فيه ويضجّ بالحنين:
“أنا المكان المقدَّس/ تأوي إليَّ النارُ من كلِّ الجهاتِ وتبكي/ أنا الكلماتُ الغريباتُ تزورني/ في معجمي كلّ شهقةٍ وتشكي”..
يستمر قلقه، وتستمرّ القصيدة في محاكاة وجده.. تستمر في إعلاءِ صوتها، وفي سعيها لردّ الموت عنها، وإخماد حرائق قلبها..
يسترسلُ في عناق أرضه، يقيناً بأنها ستطرد عدوّها، ليعود فيدثّرها بحلمه، وبحرفه الذي احتضنها وخاطبها:
“أنتظرُ الليلَ بفارغِ النَّجم لأكتبكْ/ أستعيرُ قميصَ نومِه لأوقظكْ/ فلا تستيقظي/.. أنتِ أجملُ حين تنامينَ في حضنِ حرفي/ كلّما فتحتِ عينيكِ/ أقفلكْ..”