الثورة – رشا سلوم:
تشكل التجارب الشعرية نسغاً جديداً للغة، أي لغة، واللغة التي لا تصب في بحرها روافد جديدة من الشعر والعلوم والطب ومفردات الحياة تصاب بالتكلس والموت وتتيبس معانيها.
وهذا ما أشار إليه جبران خليل جبران وغيره مثل العقاد في كتابه اللغة الشاعرة.
نحن اليوم أمام مجموعة شعرية تتقد في معانيها وتتوهج لتكون جمرا في الإبداع الشعري.. مجموعة صحر أنور التي حملت عنوان بلا أثر سواي وصدرت عن دار التكوين بدمشق، يقول عنها الناقد أحمد الشهاوي :
منذُ بدءِ الكتابِ والشَّاعرة صحر أنور تحاولُ أن تعثُرَ على الصُّورةِ الجُوَّانيةِ للذَّات بأن ترسمَ ما تراهُ مُقارِبًا أو مُطابقًا ، مُستخدمةً الأنا في البوحِ والاعتراف، تسندُها صورٌ غريبةٌ وعجائبيةٌ في جِدَّتها .
كما تستخدمُ الحوارَ الداخليَّ الدالَّ على الفعل الشَّخصي،حيثُ “تَتَلاحَقُ صُوَرُ المَاضِي” وتطاردُها ، وتُؤرِّقُها “حَـيوَات أُخْـرَى” ،لكنَّ الذَّات من فرطِ التذكُّرِ تعمَدُ بعفويةٍ إلى التحرُّر والفِرار إلى أن يتمَّ ” البعث” من جديدٍ.
كتابُ صحر أنور الشِّعْري قائمٌ في مُجملهِ على تأمُّلِ الكائنِ في مسيرِهِ ومصيرِهِ ،في محاولة قنص السرِّ المخبُوء في الكهف.
انشغلتِ الذاتُ الشَّاعرةُ في النصِّ بوصفِها امرأةً ومِرآةً ، مُتأرجِحَةً بين الباطنِ والخارج تتبادلُ الحوارَ ؛ لتسألَ ظلَّها عن أصلِهِ ، فلا تجد الظلَّ ولا الأصلَ ، مُعتمدةً الحدْسَ و العِرَافَةَ نهجًا لاكتشافِ الذات في نثارِها المُتشظِّي ؛ لتقرأَ خُطوطَ يدِها لتصلَ إلى ما تخبِّئهُ الأيامُ ، فالذَّات تسكُنُها عرَّافةٌ دائمةُ السُّؤال.
تطيرُ الشَّاعرةُ في كتابها بأكثرِ من جناحٍ ، جناح الذَّات المُبعثرة المُتدفِّقة،وجناح الذَّات العاشقة المُتأمِّلة، وجناح الذَّات الماضية المُتبصِّرة، ومن كلِّ هذه الذوات جميعًا تُدوِّنُ الشَّاعرة آلامَها وأوجاعَها وأيامَها التي حملت الكثيرَ الذي اختزنتهُ الذَّاكرة.
تغنِّي الشَّاعرةُ بوترٍ مكسُورٍ أو تحكي حكايتها بلسانِها أو بألسنةٍ مُستعارةٍ ،في مكانٍ لا وجودَ لهُ ،وبذاكرةٍ مثقلةٍ وأحيانًا مثقوبة ،لكنَّها حُبلى بالألم والأمل معًا ،رغم أنَّها مُلبَّدةٌ بغيُوم القسوة والأسى،كأنَّنا أمام وجُوهٍ مُتنكِّرةٍ.
إذ تحاولُ صحر أنور جمعَ الذي تشظَّى وتشقَّقَ وتفرَّقَ وتناثرَ،مُستخدمةً صورًا عصيةً غريبةً تتسمُ باللامعقوليةِ ، بحيثُ ما لا يمكنُ تصوّرُها أو إدراكُها،تشكِّلُ الملمَحَ الأساسيَّ للذَّات التي استحالت رمادًا في عرُوجها وعَرَجِها، وهذا السَّعي عبْرَ التشكيلِ الرُّوحيِّ للمُفردةِ والصُّورة معًا.
تحاولُ الشَّاعرةُ التعبيرَ عن الذَّات بلغةٍ تخُصُّها، قلقة وحادَّة ، والخرُوج ممَّا هُو مستقرٌ ،إذْ ترى أنَّ كُلَّ شاعرٍ لا تكفيه أبجديةٌ واحدةٌ ؛ولذا يبحثُ طَوالَ مسيرتِه عن أبجديتهِ الثَّانية .فمن وجهة نظرِ الشَّاعرةِ أنَّ القصيدةَ تظلُّ ظَامِـئَةً ما لم تعثُر على مكانها ومكانتِها .
نحنُ أمام شاعرةٍ “لا أنيسَ – لها – إلا الكِـتابة” ،تنتظرُ عربةَ أقدارها ، وتعرفُ أنَّ القَصيدةَ تنامُ على سُررِ الانْتِهاءِ.
…
هذا ديوانٌ غارقٌ في الأحزانِ ،تبْحَـثُ فيه الذاتُ الشَّاعرةُ عن نفسِها بَينَ الأشْـبَاحِ ،يَـحْـرُسُــها ظِـلُّها.
فالشَّاعرةُ تكتبُ سيرةَ ما مضى ، قلقَها وغُربتَها وأوجاعَها ، ذكرياتها ، وخوفَها الأسودَ الذي صار يحرُسُ بيتَها وأشياءَها الصَّغيرةَ من فرط سيطرتِه واستحواذهِ أو قُل احتلاله ،بعدما تبادَلَ الموتُ مَهَمَّتَهُ مع الخوف وصار ينتظرُ على البابِ.