الثورة – المحرر الثقافي:
العدوان الصهيوني الغربي المستمر على غزة وكل فلسطين لم يكن ليجد القدرة على الاستمرار لولا التواطؤ الغربي معه والدعم المباشر بلا حدود من قبل واشنطن ومن يدور في فلكها.
وكان بايدن واضحاً حد الفجور، حين قال لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها، وبالتالي هذا يؤكد المؤكد، أن الكيان الصهيوني اختراع غربي أوجد ليكون رأس حربة ضد المنطقة، وتطلب اختراع ما يسمى حق العودة أو الحق التاريخي، وبالتالي ما أسموه أرض الميعاد، ومن أجل هذا أيضاً لابد من اختراع شعب يسمى اليهود.
صحيح أن اليهودية موجودة تاريخياً كديانة وليس كشعب.. وأكذوبة العرق الصافي وشعب الله المختار وغيرها من مصطلحات التضليل يفندها هذا الكتاب المهم الذي وضعه العالم المصري جمال حمدان ودفع حياته ثمناً له، وحمل عنوان “اليهود انثروبوجيا” ولاقى رواجاً كبيراً.
واليوم نحن بأمس الحاجة إلى مثل هذه الدراسات، وقد فعل اتحاد الكتاب العرب في سورية خيراً حين اختاره ليكون كتاب الجيب مع العدد الأخير من مجلة الموقف الأدبي- صدر بصيغة الكترونية- التي ترأس تحريرها الأديبة فلك حصرية، وقد استطاعت خلال فترة قصيرة أن تترك بصمة واضحة ومهمة في نقل المجلة إلى موقع المقاومة الثقافية والفكرية.
أما عن مؤلف الكتاب جمال حمدان، فهو من مواليد 1928م- توفى 1993م، أحد أعلام الجغرافيا.. اسمه بالكامل جمال محمود صالح حمدان، ولد في قرية ناي بمحافظة القليوبية.
ترى العديد من الدراسات أن ما كتبه جمال حمدان قد نال بعد وفاته بعضاً من الاهتمام الذي يستحقه، إلا أن المهتمين بفكر جمال حمدان صبوا جهدهم على شرح وتوضيح عبقريته الجغرافية، متجاهلين في ذلك ألمع ما في فكر حمدان، وهو قدرته على التفكير الاستراتيجي، حيث لم تكن الجغرافيا لدية إلا رؤية إستراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشري وحضاري ورؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها، وهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما سعى إلى وضعها في سياق أعم وأشمل وذي بعد مستقبلي أيضاً، ولذا فإن جمال حمدان، عانى مثل أنداده من كبار المفكرين الاستراتيجيين في العالم، من عدم قدرة المجتمع المحيط بهم على استيعاب ما ينتجونه، إذ إنه غالباً ما يكون رؤية سابقة لعصرها بسنوات، وهنا يصبح عنصر الزمن هو الفيصل للحكم على مدى عبقرية هؤلاء الإستراتيجيين.
تحت المجهر انثروبوجيا
كان جمال حمدان يُشكك في أن اليهود الحاليين هم أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقب ما قبل الميلاد، وأثبت في كتابه «اليهود أنثروبولوجيا» الصادر في عام 1967، بالأدلة العملية أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمي هؤلاء إلى إمبراطورية «الخزر التترية» التي قامت بين «بحر قزوين» و«البحر الأسود»، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وهو ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات «آرثر كوستلر» مؤلف كتاب القبيلة الثالثة عشرة الذي صدر عام 1976.
يعد جمال حمدان واحداً من قلة محدودة للغاية من المثقفين الذين نجحوا في حل المعادلة الصعبة المتمثلة في توظيف أبحاثهم ودراساتهم من أجل خدمة قضايا الأمة، فقد خاض من خلال رؤية إستراتيجية واضحة المعالم معركة شرسة لتفنيد الأسس الواهية التي قام عليها المشروع الصهيوني في فلسطين.
إذا كان الباحث المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري قد نجح من خلال جهد علمي ضخم في تفكيك الأسس الفكرية للصهيونية، فإن جمال حمدان كان سباقاً في هدم المقولات الإنثروبولوجية التي تعد أهم أسس المشروع الصهيوني، حيث أثبت أن إسرائيل- كدولة- ظاهرة استعمارية صرفة، قامت على اغتصاب غزاة أجانب لأرض لا علاقة لهم بها دينياً أو تاريخياً أو جنسياً، مشيراً إلى أن هناك «يهوديين» في التاريخ، قدامى ومحدثين، ليس بينهما أي صلة.
في وقت كان الصهاينة يروجون لأنفسهم كأصحاب مشروع حضاري ديمقراطي وسط محيط عربي إسلامي متخلف، لم تخدع تلك القشرة الديمقراطية الصهيونية المضللة عقلية لامعة كجمال حمدان، كما أنه لم يستسلم للأصوات العربية الزاعقة التي لا تجيد سوى الصراخ والعويل، واستطاع من خلال أدواته البحثية المحكمة أن يفضح حقيقة إسرائيل، مؤكداً «أن اليهودية ليست ولا يمكن أن تكون قومية بأي مفهوم سياسي سليم كما يعرف كل عالم سياسي، وعلى الرغم من أن اليهود ليسوا عنصراً جنسياً في أي معنى، بل «متحف» حي لكل أخلاط الأجناس في العالم كما يدرك كل أنثروبولوجي، فإن فرضهم لأنفسهم كأمة مزعومة مدعية في دولة مصطنعة مقتطعة يجعل منهم ومن الصهيونية حركة عنصرية أساساً».
أدرك حمدان مبكراً من خلال تحليل متعمق للظروف التي أحاطت بقيام المشروع الصهيوني أن «الأمن» يمثل المشكلة المحورية لهذا الكيان اللقيط، واعتبر أن وجود إسرائيل رهن بالقوة العسكرية وبكونها ترسانة وقاعدة وثكنة مسلحة، مشيراً إلى أنها قامت ولن تبقى- وهذا تدركه جيداً- إلا بالدم والحديد والنار، ولذا فهي دولة عسكرية في صميم تنظيمها وحياتها، ولذا أصبح جيشها هو سكانها وسكانها هم جيشها.
حدد جمال حمدان الوظيفة التي من أجلها أوجد الاستعمار العالمي هذا الكيان اللقيط، بالاشتراك مع الصهيونية العالمية، وهي أن تصبح قاعدة متكاملة آمنة عسكرياً، ورأس جسر ثابت استراتيجياً، ووكيلاً عاماً اقتصادياً، أو عميلاً خاصاً احتكارياً، وهي في كل أولئك تمثل فاصلاً أرضياً يمزق اتصال المنطقة العربية ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها وإسفنجة غير قابلة للتشبع تمتص كل طاقاتها ونزيفاً مزمناً في مواردها”.
وتشير الدراسات أيضاً إلى أنه قضى ثلاثين عاماً منزوياً في شقته الضيقة، ينقب ويحلل ويعيد تركيب الوقائع والبديهيات، وعندما مات بشكل مأساوي، خرج من يتحدث عن قدرة خارقة لحمدان على التفرغ للبحث والتأليف بعيداً عن مغريات الحياة، كما لو كان هذا الانزواء قراراً اختيارياً وليس عزلة فرضت عليه لمواقفه الوطنية الصلبة، وعدم قدرة المؤسسات الفكرية والمثقفين العرب على التعاطي مع أفكاره التي كانت سابقة لزمانها بسنوات.
وفاته..
عثر على جثته والنصف الأسفل منها محروقاً، واعتقد الجميع أن د. حمدان مات متأثراً بالحروق، ولكن د. يوسف الجندي مفتش الصحة بالجيزة أثبت في تقريره أن الفقيد لم يمت مختنقاً بالغاز، كما أن الحروق ليست سبباً في وفاته، لأنها لم تصل لدرجة إحداث الوفاة.
اكتشف المقربون من د.حمدان اختفاء مسودات بعض الكتب التي كان بصدد الانتهاء من تأليفها، وعلى رأسها كتابة عن اليهودية والصهيونية، ويقع في ألف صفحة، وكان من المفروض أن يأخذه ناشره يوسف عبد الرحمن يوم الأحد، والكتاب الثاني: العالم الإسلامي المعاصر وله كتاب قديم عن العالم الإسلامي كتبه سنة 1965 ثم عاد وأكمله وتوسع فيه بعد ذلك لدرجة أنه أصبح كتاباً جديداً، والكتاب الثالث: عن علم الجغرافيا، مع العلم أن النار التي اندلعت في الشقة لم تصل لكتب وأوراق د. حمدان، ما يعني اختفاء هذه المسودات بفعل فاعل وحتى هذه اللحظة لم يعلم أحد سبب الوفاة ولا أين اختفت مسودات الكتب التي كانت تتحدث عن اليهود.
ومما يؤكد حتمية قتله ما رواه أشقاؤه عبد العظيم حمدان وفوزية حمدان أن الطباخ الذي كان يطبخ له فوجئنا بأن قدمه انكسرت وأنه راح بلده ولم نعد نعرف له مكاناً، وأمر آخر أن جارة كانت تسكن في البيت الذي يسكن فيه جمال حمدان قالت لنا إن هناك رجلاً وامرأة خواجات. سكنوا في الشقة الموجودة فوق شقته شهرين ونصف قبل اغتياله ثم اختفيا بعد قتله وقد فجّر رئيس المخابرات السابق أمين هويدي مفاجأة من العيار الثقيل، حول الكيفية التي مات بها جمال حمدان، وأكد هويدي أن لديه ما يثبت أن الموساد الإسرائيلي هو الذي قتل حمدان.
ولقد تعددت أفكار جمال حمدان في المجال الجيوبوليتيكي، حيث أسس لعلم الجيوبوليتيكا المصري والعربي
من مؤلفاته..
ترك جمال حمدان 39 كتاباً و79 بحثاً ومقالة، أشهرها كتاب شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان.
دراسات في العالم العربي، القاهرة، 1958
أنماط من البيئات، القاهرة، 1958
دراسة في جغرافيا المدن، القاهرة، 1958
المدينة العربية، القاهرة، 1964
بترول العرب، القاهرة، 1964
الاستعمار والتحرير في العالم العربي، القاهرة، 1964
اليهود أنثروبولوجيا، كتاب الهلال، 1967
شخصية مصر، كتاب الهلال، 1967
إستراتيجية اللاستعمار والتحرير، القاهرة، 1968
مقدمة كتاب القاهرة لديزموند ستيوارت، ترجمة يحيى حقي، 1969
العالم الإسلامي المعاصر، القاهرة 1971
بين أوروبا وآسيا، دراسة في النظائر الجغرافية، القاهرة، 1972
الجمهورية العربية الليبية، دراسة في الجغرافيا السياسية، القاهرة، 1973
6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية، القاهرة، 1974
قناة السويس، القاهرة، 1975
إفريقيا الجديدة، القاهرة، 1975
موسوعة شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان 4 أجزاء، القاهرة، 1975 – 1984.
خلاصة القول.. هذا الكتاب يدل على ضرورة البحث في التاريخ وتقديم الإضاءات على أضاليل المغالطات التي يريدونها أن تبقى حقيقة.. علينا مواجهة عدونا بالعلم كما بالسلاح.. والدول التي اخترعت كذبة الشعب اليهودي يجب أن تعرف أن هناك من يملك أدوات البحث العلمي وهو قادر على تفكيك مزاعمها.. وفي عصر التواصل الاجتماعي والضخ الإعلامي الكبير من الضرورة بمكان أن يصل هذا الكتاب إلى الجميع.
بقي أن نشير إلى أن الزميل ديب علي حسن هو من اختار وقدم الكتاب هذا وكان قد قدم سابقاً كتابين هما: قصة الأرض لمنير الشريف وكتاب لغة العرب لصلاح الدين الزعبلاوي وكانت طبعته الأولى قد صدرت عن مؤسسة الوحدة- صحيفة الثورة.