الثورة-هفاف ميهوب:
يرى عالم الاجتماع البولندي “زيغمونت باومان” بأننا نعيش”عصر السيولة والمعارك اليومية للدفاع عن إنسانيّتنا”.. عصر الحداثة التي حاصرت الفرد وخياراته وحرّيته ومشاعره ورؤيته، وغيرذلك مما أفقدنا أولويّة احتياجاتنا، وأسقط عن الحياة قيمها وقيمتها، فحوّلها إلى استهلاكية في سوقِ السلع الرائجة.
نعم، لقد أسقطت الحداثة عن الحياة قيمها وقيمتها، وبتفكيكها للروابط الاجتماعية، وسماحها بطغيان النزعة الفردانية والاستهلاكية.. بإضعافها للانتماء الديني والوطني، وبتحويل الإنسان من كائنٍ يعيش في سبيل مبدأ أو فكرة، إلى كائنٍ استهلاكي، يعيش لتلبية رغباته، لا يبالي بالهوية وليس له مرجعية، ويخاف دوماً من القادم المجهول، ويغرق في العزلة والفردانية.
إنها “الحياة السائلة” التي ارتبطت بـ “الحداثة السائلة”. أي بالمجتمع الحالي الذي بات من الصعبِ الاحتفاظ بشكله، أوإبقائه طويلاً على حاله..
إنه أيضاً “المجتمع السائل”، والذي وجد “باومان” بأن من الصعبِ أن تكتسب الإنجازات الفردية فيه، صلابة الأشياء الدائمة، فكلّ مزيّةٍ فيه تتحوّل إلى عيبٍ، وكلّ قدرةٍ إلى عجزٍ، وظروف الفعلِ والاستراتيجيات التي يلجأ إليها الفرد الذي ينتمي إليه، تصبح وحتى قبل أن يتقنها هذا الفرد، قديمة وغير مستخدمة.
هكذا وجد “باومان” مجتمع الحداثة، بل الحياة التي رأى بأنها باتت في هذا المجتمع:
“حياةٌ سائلة ومحفوفة بالمخاطر، يحياها الفرد في حالةٍ من اللايقين، خوفاً من أن تأخذه على حين غرّة، فيفشل سعيه للحاقِ بالمستجدّات المتسارعة، وفي تذكّر تواريخ انتهاء الصلاحية، فالحياة السائلة سلسلة لبداياتٍ جديدة، تجعل النهايات السريعة المؤلمة، من أصعب وأوجع لحظات الحياة..”..
إنه ما جعل “باومان” يبحث في هذه الحياة، عن مكانٍ يحمّل المعنى مهمة شاقة، فالترحال بين محطات العمل، مثلما محطات العلاقات، يخلق غربة تترك أثراً من الحزن غير المفهوم، بل والشعور بأننا نعيش “شظايا حياة” يقلقنا أن نرى فيها:
“تشظّي المعنى وتشظّي الزمن، وتشطّي النفس وتفرّق شملها وحيرتها”..
بيد أنها المشكلة التي أحاطت بكلّ جوانب حياتنا، حيث تراجعت الثقافة في شموليّتها، وتقدّمت ثقافة الاستهلاك. “استهلاك اللحظة والمعنى والمكان، وحتى الطفولة، فالسلع محمومة في تسابقها، لجعل الطفل كائن مستهلك حاضراً، لا فرداً بنّاءً مستقبلاً..”..
كل ذلك، جعل “باومان” يشعر بأنه “عصر الظلام”.. العصر الذي فُهم فيه التقدم، على أنه صراعٌ يومي، لا إنجازٌ حضاري، والذي باتت فكرة الحياة السائلة فيه، تُحاصروتهدم فكرة الدوام، وتُعلي من قيمة الزوال الذي بات الخوف منه، وقوداً للاستهلاك..
طبعاً، لم يتناول “باومان” كلّ ذلك، لُيُشعرنا بالاحباط واليأس والاستسلام لأزمة الحداثة والحياة السائلة، وإنما أراد منّا مقاومة هذه الأزمة، عبر تقوية الوعي والتماسك الاجتماعي، وإحياء مهارات التفاعل مع الآخرين، والتفاهم والنقاش والتعامل بإنسانية.. أيضاً، إدراك القيم العامة والمشتركة، وإلا صارت المواطنة:
“فعلٌ من أفعال شراء السلع وبيعها، لا فعلاً من الأفعال التي تزيد رقعة الحريات والحقوق، من أجل ضمان كرامة حقيقية، وحرية وعدالة”..
حتماً، هي أزمة تحتاج لتفاديها، وهي مسؤولية كونيّة كبيرة، علينا جميعاً فيها:
“الاعتراف بأننا جميعاً على هذا الكوكب، نعتمد على بعضنا البعض من أجل حاضرنا ومستقبلنا، وأنّ ما نفعله أو نعجز عن فعله، لا يمكن ألايبالي بمصير الآخرين، وبأننا جميعاً لا يمكن أن نلجأ إلى مأوى خاص، بمنأى عن العواصف التي ربما تضرب أيّ جزءٍ من الكرة الأرضية”..