الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
النّقدُ (فَنُّ تمييز جَيّد الكَلام من رَديئه ، وصحيحه من فاسده ، والنّاقدُ الفَنّيُّ كاتب عمله تمييزالعمل الفَنّيّ جيّده من رديئه )
هذا ما جاء في المعجم المدرسي ،فالعلاقة بين المُبدع والناقد من أكثر العلاقات تداخلاً وتشابكاً وحساسية ، وتظهرنتائج تلك العلاقة من خلال ما يتركه الناقد من إعادة قراءة وتحليل وتقييم وتقويم للنص المراد ، سواء أكان شعراً أم رواية أم …
هذه العلاقة غالباً ما ترخي بظلالها على المُنجز الإبداعي ، وخاصة عندما يكون الناقد غيرموضوعي في نقده ، أو ينطلق من أجنّدات بعيدة عن أدوات النقد ومدارسه والتي يجب أن تكون نزيهة بعيدة كلّ البعد عن أيّ اصطفافات سياسية أواجتماعيّة أو …
بمعنى آخر على الناقد أن يكون حيادياً مع النص الإبداعي ، يقدّم تحليله ورؤاه بمنتهى الموضوعية ويتعامل بمحبّة مع النص الذي بين يديه ويعيد إنتاجه ويقدّم إبداعاً للإبداع .
تقول الروائية السورية توفيقة خضور في حوار صحفي أجريته معها بعد فوزها بجائزة الطيب صالح العالمية للآداب في السودان عام ٢٠١٤ عن روايتها (سأعيد إنجاب القمر) ونُشر في جريدة الأسبوع الأدبي آنذاك رداً على سؤالي :
هناك من يقول بأن النقد الأدبي غيرموجود وما يُكتب هنا وهناك لا يعدو كونه مجاملات ،أوعلاقات شخصية ،كيف تنظرين لمسألة النقد الأدبي ؟
( النقد الأدبي هو إعادة إنتاج للنّص ، وما أحوجنا إلى نقّاد ينظرون للأعمال الأدبيّة بعين المحبّ البصيرة لكن للأسف هؤلاء قلّة ..
معظم من يمتهنون النقد في بلدنا محكومون بعقدهم ، وصداقاتهم ، أوعداواتهم ، والأخطر من كلّ ذلك أنهم محكومون بضيق أفقهم ، الذي يؤدي بالتالي إلى تشوّه ذائقتهم .)
إذاً العلاقة بين المبدع والناقد غالباً لا تعطي تقييماً دقيقاً وموضوعياً للنّص أو العمل الأدبي أو النشاط الثقافي فهي صدى لنوعية تلك العلاقة من حيث التوافق أو التضاد أو الحياد أو….
من هنا فإن النقد والقراءات النقدية هي وجه آخر للإبداع من خلال نظرة الناقد الثاقبة وبصيرته المنفتحة ، وذائقته الفنيّة العالية ، وإحساسه المرهف ،ومواقفه من عملية الإبداع والمبدعين، وخاصة الشباب منهم ، والأخذ بيدهم بالتصويب والتدقيق والتشريح وإظهار مكامن القوة والجمال والإشارة إلى حالات الضعف والترهّل لتجاوزها مستقبلاً…
إنّ الإبداع مهما كان مميزاً لا يمكن أن يتطّور ويأخذ مكانته اللائقة دونما نقد وتسليط الضوء على بنية العمل الإبداعي وماهيته ، كذلك لا نقد من دون إبداع ، صحيح أنّ الإبداع يتقدم على النقد لكن لا بدّ أن يواكب النقد الإبداع ، لتمييز العمل الجيد من الرديء ،وبطريقة منهجيّة علمية ترتكزعلى أسس ومعايير وضوابط دقيقة ومدروسة بعيداًعن المجاملة أو المحاباة أوالتجني والتشهير، وبالتالي لا يمكن للنقد أن يكون نقداً إذا لم يعيد بناء النص وإخراج الطاقات الكامنة فيه …البيانية والجماليّة، فالنقد لا يعني الإشارة إلى العيوب والضعف والهنات في النص ، بل لابدّ من التحليل وتشخيص العمل وفق رؤى جديدة تأخذه لمطارح غنية بالجمل اللفظية والصورالبيانية المبتكرة ، والمعالجات الفنيّة والسردية المميزة.
ولعل واقع النقد في العالم العربي يشير إلى بطء في الحركة رغم التطور والتقدّم الهائل في وسائل الاتصالات والعولمة وانتشار المعرفة ، ويرى الكثير من النقاد أن حالات الضعف في النّصوص المنشورة سواء على الشّابكة، أوعبروسائل التواصل الاجتماعي لا تثير شهيتهم في قراءة وتحليل تلك النصوص، والتي لا ترقى إلى مستوى الإبداع الحقيقي ، ومع ذلك نجد ثمّة آراء تدّعي أنّها تهتم بالنقد تكيل المديح والثناء لتلك النصوص رغم أنّها ضعيفة وهزيلة وسطحيّة ،و تدني مستواها وأحياناً لا تحقق الحد الأدنى من شروط النشر .؟!
اذكر على أيام الصّحف والمجلات الورقية ثمّة قراءات نقدية جادة وهادفة ،بأقلام نقّاد لهم باع طويل في حركة النقد ، ويمتلكون أدواتهم ، ولديهم مشروعهم المعرفي والإبداعي ، كانت تُنشر بين وقت وآخر أضافت الكثير للإبداع والمبدعين وساهمت إلى حد كبير في تسليط الضوء على نصوص أدبية ومجموعات شعريّة وقصصيّة وأعمال روائية ، أصبح لها شأن في الحياة الثقافية والأدبية .
السؤال الذي يمكن طرحه ضمن هذا السّياق هل بالضرورة أن يكون المبدع ناقداً ؟
أو بالعكس هل من الضرورة أن يكون الناقد مبدعاً ؟
ربما تكمن الإجابة في قول الجاحظ : (صنعة النَّثر وصنعة الشِّعر لا يَجتمعان إلاَّ للقليل من العلماء، وأنَّ من يجيد إحداهما قد لا يُجيد الأخرى.)
قولاً واحداً لا إبداع دونما نقد والذي يشكّل الأوكسجين الذي يمدّ النّص بالحياة ومن دونه يبقى حبيس الرفوف ويعتليه الغبار .!!
أيضاً لا نقد دونما أعمال إبداعية في شتّى صنوف المعرفة تشكّل مادة مهمة ودسمة لمبضع الناقد النزيه المحب والمتابع ويرى في النقد وجه آخر للإبداع .
العدد 1178 – 13 -2 -2024