احتفل الموسم الأحدث لأيام الفن التشكيلي السوري أواخر العام الماضي بالذكرى المئوية لولادة الفنانين المعلمين: أدهم إسماعيل، ومحمود حماد اللذين جمعت بينهما صداقة عميقة، التقى أدهم إسماعيل ومحمود حماد لأول مرة عام 1941 في نادي دمشق الأهلي الرياضي في شارع الشهداء بدمشق، حيث كان حماد يتواجد ويعمل في غرفة خصصت للفرع الفني، وكان ذلك اللقاء بداية صداقة استمرت مدة تجاوزت العشرين عاماً، بحثا معاً عن مصادر الثقافة الفنية النادرة في ذلك الوقت، قرآ كتاب (سلامة موسى) في تاريخ الفن وما عثرا عليه في المجلات الأجنبية التي كانت تنشر أعمالاً بالألوان لكبار الفنانين القدامى والمعاصرين، وتناقشا حول مقالاتها، وأثارا التساؤلات حول مفاهيم الفن الحديث التي شغلت اهتمامهما، وشاركا بالمعارض التي كانت تقام في دمشق كانت صداقة غنية إلا أنها قصيرة بحكم الرحيل المبكر لأدهم إسماعيل، وعاش محمود حماد سنوات كثيرة بعد رحيل أدهم تابع فيها مشروعه الفني المتألق، وتحدث خلالها مراراً عن أدهم وتجربته وصداقتهما الخلاقة: في حفل تأبينه وفي مذكراته ومقالاته، وصنع له ميدالية كتب فيها: “إلى الأخ من زملائه والأب من تلامذته، تحية إلى أدهم إسماعيل”.
في أواخر 1939 التقى حماد الفنان المعلم نصير شورى وتوطدت بينهما صداقة استمرت حتى أواخر عمريهما، وكما تحدث حماد عن أدهم إسماعيل إثر رحيله، تحدث شورى عن حماد بعد رحيله عام 1988 مستحضراً تعارفهما الأول ورحلتهما المشتركة حيث ذكر أنه في أواخر الثلاثينات قدم له أحد الفنانين القدامى شاباً، يافعاً في الرابعة عشرة من عمره يحمل بعض إنتاجه من لوحات صغيرة بالألوان الزيتية ذات مواضيع مختلفة، يقول شورى: تأملت أعمال ذلك الشاب بإعجاب وتعجب، وقلت في نفسي كيف يمكن لشاب في مثل عمره أن يصل إلى ما وصل إليه، وأعجبني فيه بالإضافة إلى فنه، حياؤه وتأدبه ولم أكن أدري بأن هذا الشاب سيكون صديقي الحميم، ورفيق الدرب لمدة خمسين عاماً، فمنذ ذلك الوقت، وبسرعة، توطدت بيني وبين محمود صداقة رائعة مليئة بالعمل والإنتاج الفني، يدفع أحدنا الآخر إلى التجديد والتطوير والإبداع، وشدتني إليه مجموعة من الصفات قلما توفرت كلها في شخص واحد، فأخلاقه كانت على مستوى قريب من الكمال، كما كان علمه ومعرفته وصدقه وثقافته في خدمة الآخرين، أشياء يعيش بها ومن أجلها، وكان يعمل بصمت وهدوء ومن دون تذمر أو ضجر، لا يشكو ولا يطعن بأحد مبتعداً عن خلافات الآخرين لإدراكه أن البحث والتعمق في العمل يمكنهما أن يأخذا أكثر وقته، وبدأت مسيرتنا التي لم يقطعها إلا فترات الغياب للدراسة، فأسسنا مرسم فيرونيز الذي ضم بعض الفنانين التشكيلين رحل بعضهم، وما زال البعض الآخر يتذكرون تلك الحماسة التي كانت في نفوس تلك المجموعة الشابة من الفنانين الذين يبحثون عن الحقيقة، ومعنى الحياة وجدوى الفن.
انفرط عقد جماعة مرسم (فيرونيز) ولكن الحاجة إلى التجمع والالتقاء وتبادل الأفكار والخبرات جعلتنا نسعى إلى تأسيس الجمعية السورية للفنون التي فتحت صدرها بالإضافة إلى الفنانين التشكيلين، للكتاب والموسيقيين والممثلين، وكان محمود من أعضائها النشيطين يسهم بما يقدر عليه من أعمال، فصمم بعض الأغلفة للزملاء الكتاب، فاتحاً عهداً جديداً لغلاف الكتاب بالإضافة إلى عمله في الفن التشكيلي، وفي الوقت نفسه سنحت لي الفرصة أن يكون لي مرسم خاص ولكن ذلك المرسم كان مرسمنا معاً.
فكم من أيام وليالٍ قضيناها في ذلك القبو الذي كانت تملؤه روح المحبة والصفاء والعمل الجدي، وامتزج حزني بفرحي عندما سافر محمود إلى روما للدراسة في أكاديمية الفنون كنت فرحاً بالفرصة التي أُتيحت له للاحتكاك المباشر بالنتاج الفني العالمي ولكني في الوقت نفسه أحسست بالوحدة والفراغ الكبير الذي تركه صديقي والحنين إلى جو العمل الذي كان يملأه علي حماد
ثم عاد حماد بعد أربع سنوات، ورجعنا إلى سابق عهدنا من الصداقة الوفية والمشاركة المستمرة باستثناء الفترات التي قضاها خارج دمشق كمدرس للفنون، وعندما تحقق حلم الفنانين بافتتاح كلية الفنون الجميلة، كنت مع محمود من أوائل مؤسسيها ومنذ ذلك التاريخ تلازمنا من دون انقطاع.
وحسب محمود حماد فخراً وذكرى عطرة، أنه وأثناء شغله لمنصب عميد كلية الفنون الجميلة، سعى سعياً حثيثاً ولم يوفر أي جهد لإنجاز بناء لكلية الفنون الجميلة يليق بها، واستطاع أن يحصل من الإيطاليين على التصاميم المعمارية للبناء كهدية، وقدم التصميم الزخرفي للواجهة مساهماً بذلك في تصميم البناء، وقام البناء، وشارف على الانتهاء، ولكن الأجل المحتوم لم يتح له فرصة التمتع بافتتاح الكلية الجديدة ورؤية طلابها يتوافدون عليها داخلين وخارجين مستجدين وخريجين.
محمود حماد الذي خسرناه فجأة سيبقى يعطي بعد رحيله، لأنه كان مثالاً للفنان الجاد الهادئ العميق، لقد خسرناه كفنان منتج وربحناه كمثال يحتذى بأخلاقه ومبادئه ونهجه.