الثورة- عبير علي:
فنانة جمعت بين النحت والرسم وتصميم الأزياء، وقدمت على مدى أكثر من نصف قرن، العديد من اللوحات والمنحوتات والتصاميم، ومن أروع منحوتاتها منحوتة آلهة ينبوع السقيلبية، المتمثلة بآلهة الينبوع في مملكة ماري السورية، التي تعدّ رمزاً للعطاء الذي لا ينضب، ولقد تميزت أعمالها بالكلاسيكية والواقعية قبل أن تتحول في بعض لوحاتها الأخيرة، إلى المدارس الفنية الحديثة.
إنها الفنانة التشكيلية ليلى رزوق التي لاتزال مستمرة بالعطاء بكل زخم وقوة، بالرغم من أنها شارفت على السبعين، من عمر النضال المستمر.
«الثورة» التقتها فكان الحوار التالي:
كيف كانت لوحات البدايات؟
كما جميع الأطفال الذين تربوا في بيئات غنية بكل شيء، فقد كان الغنى الروحي والمادي والعقلي والفني، وكل أنواع الرقي الاجتماعي تعج فيها بيئتي الطفولية المبكرة، وقد غرفت من هذه الكنوز كل ما استطعت إليه سبيلاً.
اللوحات الأولى كانت منحوتات في كتل الحوار الأبيض، الذي كانت رائحته تنعش القلوب، بعد أن يمزج بالماء والتبن، وتشدني لأنحت في تلك الكتل أجمل المنحوتات.
وأما النساء الطيانات اللواتي يقمن بدهن البيوت بالطين الأبيض، كانت تتراقص أصابعهن لصناعة أجمل الزخارف والصلبان، حول الشبابيك الطينية… ولجانب شغل القش، فقد كانت مواسم صباغ سوق القمح، معرضاً حقيقياً يعج بالألوان الصاخبة الغنية.
وهناك في ذاك الركن كانت غنائم الصيد الوفيرة، من الأرانب البرية والغزلان والبط الخضري، الذي كانت ألوان ريشه تسلب مخيلتي لأصنع منه أجمل الفساتين للألعاب.
أما عسل الشمع فقد كان يأسرني، بأن أصنع منه الأحذية المرصعة بالخرز الملون، وللصابون بأنواعه جميعها، وخاصة الغار حكاية فقد أنحت منه ما لا أستطيع إحصاءه.
وفي الصف السابع درسنا الرسم، وكان أول مدرس في مدينتي السقيلبية هو الأستاذ الرائد عماد العبد الله أطال الله عمره، وقد كنت متميزة لديه لشدة إعجابه بموهبتي المبكرة.
كما كنت مدللة كثيراً في بيتي ومدرستي وضيعتي الجميلة، إذ كانوا يقدرون موهبتي ويشجعوني أجمل تشجيع.
متى بدأ تأثرك بتراث مدينتك السقيلبية، في الرسم والنحت؟
في الحقيقة انبهرت منذ الطفولة، بتلك الأزياء التي تجاري الممالك القديمة، كملكة أفاميا وملكة تدمر وماري وأوغاريت. وكنت أرى هذه الأزياء التي ترتديها نساء ضيعتي مملوءة بالعزة والفخار والمروءة والإباء.
كانت تعجبني ألوان الملابس، ويبهرني تنضد الذهب المرصع بالياقوت الأحمر على شكل تيجان، يزين رؤوس النساء والصبايا الشامخات، وفي أعناقهن القلادات الفاخرة.
ولمعان خيوط الذهب، في تلك الحطاطة الحالكة السواد، المصنوعة من الصوف والقطن، وفوقها المنديل المسلوبي من الحرير الطبيعي، والمطرز في وسطه، وهو يتدلى على جانبي وجه الصبية، ليظهر فتنة جدائلها المتدلية على الكتفين، وكأنها مجدولة بأشعة الشمس وسنابل القمح.
والمحزم المصنوع من البروكار الدمشقي الشهير، كان يلف خصر الصبايا الشامخات عزاً وتيهاً.
تراكم هذا الاعتزاز في ذاكرتي، وبدأت أرسم بعفوية لوحة هذا الزي، وأول لوحة رسمتها كانت لعمتي رحمها الله، وشاركت فيها بالسبعينات، في إحدى معارض الجامعة في حلب الشهباء، وكان يشارك في المعرض آنذاك الفنانان العبقريان لؤي كيالي، وعمر حمدي، وكتب عن ذلك الفنان طاهر البني «رحمهم الله»، ولاقت لوحتي إعجاباً واستحساناً، ومنذ ذلك الوقت بدأت أرسم أزياءنا الجميلة الراقية.
مادور الفنانين الرواد في مسيرتك.. وما أقربهم لك؟
في الحقيقة تأثرت كثيراً في طفولتي بتماثيل مايكل أنجلوثم اختلطت بالفنانين في حماة أم النواعير، وفي حلب الشهباء، وفي دمشق الفيحاء، وأخذت من المدارس جميعها، ما أعجبني وما راق لي، وكان قريباً من روحي.
ولكن أهم ما أثر كان في زيارتي لمتحف اللوفر، إذ بقيت أتعبد به من الصباح حتى المساء، ولمدة عشرين يوماً متتالياً.
وبعد اللوفر، شاهدت قاعة الفن الحديث في المكتبة الظاهرية، في ساحة جورج بمبيدوا.. وهنا رأيت القفزة الكبيرة بين الفن الكلاسيكي والفن الحديث، بجميع أشكاله ومدارسه، من الانطباعية والسريالية والتكعبية..إلخ، وعرفت أن آفاق الفن واسعة وحرة وسهلة، والمهم هو شغفك ومحبتك لما ترسم أو تنحت.
أنتِ أقرب إلى النحت من الرسم.. هل ترين نفسك فيه أكثر؟
نعم، أنا أحب النحت كثيراً وأجد موهبتي به، إذ تأثرت منذ الطفولة بالتماثيل العالمية، ولكن بعد أن عرفت الرسم أحببته كثيراً وشعرت بأنني لا أستطيع أن أعيش بدونهما.
أنتِ الوحيدة من جيلك التي جمعت بين الرسم والنحت.. هل من إضافات؟
في الحقيقة لا إضافات، ولا يعني ذلك شيئاً, كل يذهب إلى مايحب، فانا أحب كل مايتعلق بالفن وأسعى له، مثل الضغط على النحاس، والنحت المباشر في الشمع الأحمر والأزرق لصانعي الذهب، وقد نفذت كثيراً من القلادات والميداليات في حلب، وكذلك تصميم الأزياء والتفصيل إلى جانب دورات الوسام في المكياج إضافة إلى الكروشيه والإبرة والصنارة الواحدة والصنارتين… على مبدأ من يملك الكل يملك الجزء.
متى برز اهتمامك بتصميم الأزياء؟
ظهر اهتمامي بالتصميم والتفصيل في أيام الجامعة، بالرغم من أن دراستي كانت ر.ف.ك. وزاد الاهتمام فيما بعد عندما درست في دمشق بمعهد اسمود الفرنسي الدولي، وقد كرمت آنذاك.
ما سبب تحولك من الكلاسيكية والواقعية إلى اللوحة الفنية الحديثة.. وما هي مشاريعك القادمة؟
إن جمال الفن وغوايته، يجعلك محباً ومغامراً ومطرقاً لجميع الأبواب، المهم أن يكون ذلك نابعاً من روحك وليس تقليداً لأحد.. فالمحبة للعمل والتماهي معه، يجعلك مستمراً في التجارب، ولا تعرف إلى أين أنت ذاهب.