الثورة-فؤاد مسعد:
فيما مضى كان الانتظار سيد الموقف، فالأعين تترقب إعلان بدء شهر الصوم، وما إن ينطلق حتى تجحظ الأعين بشغف نحو الشاشة الصغيرة لمتابعة جديد “غوار الطوشة” والمقالب التي سيوقع بشباكها “حسني البورظان”، ومنافستهما على حب “فطوم حيص بيص”، وهروبهما مع “أبو عنتر” من براثن “أبو كلبشا”، ووسط ذلك كله يحاول “أبو صياح” ترميم ما يخرّبه “غوار”.. بهذه السلاسة والبساطة كان يمر أحد أجمل أعمال رمضان التي كان ينتظرها الجميع.
هكذا كانت أجواء الدراما آنذاك، إضافة إلى أعمال أخرى تحمل عمقها ورسالتها الواضحة وأعمال تاريخية كانت تصوّر وفق إمكانيات ذاك الزمن، لتمر المسلسلات الرمضانية حاملة روحاً إنسانية تتسلل إلى النفس وتداعب الخيال، منها ما يزرع الابتسامة ومنها ما يقدم الفائدة والعبرة والتسلية.
إلا أن تطوراً بدأ يطرأ على هذه الأجواء ويصعّد من حرارتها، فأُنجِزت أعمال ارتفعت فيها وتيرة حدة الصراعات، وتسلل إليها العنف بجرعات متفاوتة، منتهجةً طابعاً آخر خاصة مع بداية تسعينيات القرن الماضي لتبدأ البوصلة تتجه نحو الأكثر جرأة وتكلفة وإبهار، ودائماً الحجة جذب الجمهور وإرضاء ذائقته.
ولكن كيف هو الحال اليوم؟ وأي تطور طرأ على الدراما؟ وما الذي ينتظره المشاهد منها في الشهر الفضيل؟.. تساؤلات كثيرة باتت تطرق الذهن سنة بعد أخرى، خاصة بعد الاتجاه نحو المنافسة الشرسة حول أي الأعمال تحوي شراً أكثر وعنفاً أكبر ودماء وقتلاً وكل ما يحمل بين طياته من بهارات حارة يمكن رشها على الحكاية الدرامية لتمسي أكثر قسوة، وبالتالي أكثر تأثيراً !!. هذا الفارق الذي أحدثته آلة الإنتاج الدرامي بين الأمس واليوم، والذي بات يشكّل في أحد أوجهه الفرق لدى المتلقي نفسه بين الأمس واليوم .
اليوم سوق العرض الرمضاني بات يلفظ العمل الإنساني الشفاف “إلا فيما ندر” لأن سوقه ليست هنا وسط مهرجان تتصارع فيه القوى، فعلى الرغم من تنوع أطباق مائدة العرض الرمضانية إلا أن البوصلة حددت اتجاهها نحو عدد محدد من الأعمال، وهي المتسمة بالإنتاج الضخم والآلة التسويقية الأعلى والتي حيكت قصصها بشر أكبر وكمية عالية من العنف الذي تحوّل مع الوقت ليصبح مجرد مشاهد عادية تمر شانها شأن المشاهد الأخرى. وأي عمل يغرّد خارج هذا السرب سيكون بشكل أو بآخر خارج المنافسة لأن سوقه ليست هنا.
هو سباق محموم بكل معنى الكلمة، وهنا أستعير ما قالتها الكاتبة رانيا بيطار في اليوم الخامس من رمضان الحالي: “أخيراً فهمت عبارته حين قال لي /مسلسلك لا ينافس/ .. يا أستاذي العزيز أشكر الله أنه لا ينافس” .
لقد فهِمت “بيطار” اللعبة التي بتنا جميعاً في رحم أتونها، هو تغيير يفرض شروطاً جديدة في آلية الإنتاج ومتطلبات السوق، وإلا ما سر كثرة “الراقصات” في الموسم الدرامي الحالي؟ وما ضرورة العنف المبالغ فيه؟ وما سر استجرار عاطفة الجمهور بمشاهد تعكس كماً كبيراً وربما مبالغاً فيه من الشر؟.. لماذا تحوّلت المنافسة في الحلقة الأولى حول أي مسلسل سيحوي دماء أكثر أو عدد قتلى أكبر أو مشانق؟.. كلها توابل من شأنها إحداث صدمة تشد المتلقي جراء جرعة العنف العالية، لتبقى الأعمال الأخرى الموجهة للأسرة والتي تحكي بدفء عن هموم العائلة حكراً على عدد أقل من الجمهور يُطلِق عليه البعض “جمهور النخبة” ليزيد من عزلته، وليوحي أنه جمهور خارج سياق الطبيعي الذي يريده المتلقي العادي .
ما ذهبنا بالحديث عنه ليس تقليلاً من شأن أعمال معينة أو الرفع من شأن أعمال أخرى، فمما لا شك فيه أن الدراما السورية خطت خطوة هامة نحو الأمام في الموسم الدرامي الحالي، ولكن هي نظرة سريعة حول كيفية تغيير المفاهيم وذائقة المُشاهدة وآلية التلقي بين زمن كان التعاطي فيه أبسط في كل شيء، في حين طرأت مع الوقت تحولات فرضت صورة أكثر تعقيداً حتى عبر الدراما، وصولاً إلى عصر تسيّد فيه “التريند” ساحة العرض بكل ما يحمل في جعبته من شروط فرضها على آلية الإنتاج.