الثورة- رنا بدري سلوم :
أجاد الشّاعر توفيق أحمد في انتقاء العنوان مختصراً عصافير كلامٍ تنقرُ حبّات القمح على فم المعاني، لتزهر على أكفّ صفحات ديوانه الصّادر حديثاً عن دار بعل صوراً شاعريّة أشبه بغابة غنّاء، وإن تمعّنا أكثر نجد “تأملات في الحبّ والحياة” تتصدّر الغلاف الذي رسمه الفنان العالمي رائد خليل، وكأنّ الشّاعر يقدّم لنا تأمّلاته بلا قيود بعيداً عن حديث القوافي وإشكاليّات البحور، ليقول لنا: دعوني أتصوّف الشّعر وأطوف في محرابِ الجّمال دون قيود، فها هي اللغة ودلالاتها تنبت سنابل، وأصابعي ربيعاً ترسم قصيدة حرّة من كل قيد، بل تعلّق قلادة على صدر الكلمات.
ديوان “عصافيرٌ تنقر سنابل كفّي” موجّه إلى صانعة الجّمال وهي الأنثى، وكي أكون منصفة في إضاءتي على الكتاب تجاوزت المقدّمة الطويلة التي كتبها أحمد ليوضّح ما جال في خاطره وما خمّره في جوارحه خلال سنوات عمله الأدبي والإعلامي، تجاوزتها كي أقرأ الشّعر أولاً، دون معرفة سبب ولادة هذا المنتج الأدبي.
فكما عوّدنا الشّاعر خلال خمسة وأربعين عاماً من الإبحار في شّعره المقفّى والتفعيلة والحر أن نحلّق في فضاءات الهيام بدهشة المعاني، وكيف لا وهو فارس اللغة وابن تخوم الشّعر وصوته الدّافئ، يعيدنا بقصائده إلى حالات الحبّ، نحن المتعبون من حمل أثقال الحياة الماديّة والدنيويّة، مخاطباً الأنثى في معظم قصائده بدءاً من العنوان حتى النّقطة الأخيرة من عطر حبره، فيخاطبها ” عزّزي إرادتي باستقصاء أشيائك”، “وزّعي مشمشك على نزقي”، “فهرسي عواطفك كي لا يهرب نخيلك من بلحي”،” أقمارك تتأرجح في مداراتي”، “أثناء اقترانك بالضوء تهت في شعابك” وغيرها من العناوين اللافتة ومضمونها الثري بعاطفة نقيّة انسابت فيها المفردات دون تكلّف أو تصنّع، قصائد يقرّ فيها بصور شعريّة ما عجزت عن تحقيقه الأيام فبقي يلحّ في زوايا الرّوح ليخلق كل جماليّات النّصوص. ففي عنوان أدعو “ضفائرك للتفاوض مع أصابعي” يكتب أحمد: أما بعد أما تاق كفّاك لرفيف العصافير؟ أما حنت ينابيعك لقصائد الشّعراء تلك التي تزيدها تدفّقاً وخمرة؟ ألا تسمعين صراخ أرضك الظمأى في وجوه الشطآن”.
وفي نص” تمارين الألم ” يكتب: أنتِ التي تبني النسور بيوتها على قلقِ أصابعكِ وأنِت التي تواجهين الموج المداهم فيعود إلى العباب البعيد شارباً من أقداح عينيكِ ما يجعله منتشياً، المغرمون لا يستطيعون الرّقاد، لا تكوني شهرزاد ولا تبحثي عن شهريار، كوني لؤلؤة أيامك، كوني ضفّة ونهراً ونحلاً يقبّل الزّهر وصيّاداً وامرأة تملأ الأرض أنوثة وصهيلا، الزّمن ليس طويلاً وأعمار مرافئ الشّوق قصيرة فافرشي هبوبكِ على عيون الحيارى لا تتركي سلطانكِ للغياب.
وفي نص يعترف به لداليدا يقول لها: “أنا مالح كمياه البحر، حلو كالنّهار، مشرقٌ كالمنارات ومظلم كبطن الحوت، انصحكِ ألا تغاري في قادم الأيام فكثير من النسائم تلثمُ جبيني وكثيرٌ من الغواني يقطفن النارنج من حدائقي ولست بحاجة لكثير من الاختبار، علماً أنَّ وافر الوضوح يصنع الغموض تعلّمتُ أنّ أغسل رؤاي بمياه ينابيع الجبال وأشارك العصافير والأعاصير قراراتها وعندما سترسلني قدماي إليكِ في وقتٍ قريبٍ أرجوكِ أن تستعدّي للإعصارِ واغتيالِ ورفضِ الخيارات.
عند الشّاعر لا نوايا تلوّن أو تجمّل لكن عند أحمد النوايا هي نوع من حريّة الخيارات فلا أبيض وأسود بل طيف لحالات الحبّ، فيكتب في نص ” نوايا مملوءة بالألوان”: يا فراشة روحي اللاهية أنا مصباحكِ العاري إلا من زيت الحّب، المسافات لا معنى لها في قاموس الوجد فتعالي لنمارس هذا المحو الكريم ونذوب في ذُروةِ المشتهى.
بهذا كتب الشاعر توفيق أحمد قصائد لا يشبه بها أحداً، مجيباً بنصوصه على أسئلة الواقع والحياة المكتظّة بالإلحاح، فعلى المبدعين مسؤوليّة أخلاقيّة في الإجابة عنها، وفقاً لما أكّده في مقدّمة الديوان، معتقداً أنَّ المطلوب من النّصوص التأمليّة النثريّة كهدف استراتيجي لها أن تنتج شعريّة خاصة بها وحالة فكريّة واضحة ومخلصة لروح النّص الحديث، فقصيدة النثر ستبقى ابنة الحياة ونتاج ديمومتها، أصيلة وليست بنت حرام التصقت بها الخيانة لكونها غير شرعيّة كما قيل عنها منذ سنوات طوال، مؤكداً في قوله: ” قالت أتولدُ بالحرامِ قصيدةٌ قلنا نعم وتفوق كلّ حلالِ، أوما تعبنا من ديار عُنيزةٍ ووقفنا زمناً على الأطلالِ” فقد آن الأوان لأن يغادر الشّعراء “متردّمهم” إلى فضاءاتٍ أخرى تطلق فيها أجنحةُ الحروف أعلى فأعلى.