الثورة-هفاف ميهوب:
«ما هذا الشعورُ الذي حرّك الساكن، ونشّط الهامد وأحيا الجماد؟!.. إنه الفرح بجلاءِ الأجنبي عن أرضٍ عربيةٍ شقيقة، والجلاءُ عن سورية ليس إلا مطلع ذلك الفجر الجميل، في ليلِ الشرق الطويل .
إنه بعض ما ورد في مقالِ الكاتب والمسرحي المصري «توفيق الحكيم»: «رأيت يوم الجلاءِ في سورية»، المقال الذي نُشر منذ عقودٍ في «أخبار اليوم».. الصحيفة التي كانت قد أوفدته مع المصوّر الخاص بها، لتغطية الاحتفال العظيم الذي عمّ العاصمة دمشق، فرحاً بجلاءِ المستعمر الفرنسي عن أرضها.
يصف «الحكيم» في هذا المقال لحظة طيرانه إلى دمشق في طائرةٍ حربيّة مع مجموعة من الطيارين المصريين.
لحظة هبوط الطائرة في «مطار المزّة» واستقباله من قِبَل «سعد الله الجابري».. رئيس الوزراء آنذاك، والذي بادره بالسؤال: «أين حمارك؟». فكان أن أجاب: «أوفدته ليشيّع المحتل الراحل، بما يناسب المقام»..
يصف أيضاً، وفود الدول العربية التي احتشدت لتشارك في الاحتفال وتباركه.. الأيادي التي تصافحت، والأجساد التي تعانقت، بل والنشاط الفجائي الذي أيقظه باكراً، وجعله يخرج إلى المدينة، فيرى العجب الذي قال عنه:
«ماذا أرى؟!.. المدينة كلّها مستيقظة مثلي، وقد ارتدت أجمل حلّةٍ، من أزهارٍ مشرقة الألوان.. أعلام الدول العربية وراياتها، قد نُشرت خفّاقة في كلّ مكان، والناسُ في ثياب العيد قد تراصّوا، في الشرفات والطرقات، وفوق الروابي وأسطحة البيوت، وأنغام الموسيقى تعزفها فرق الجنود، وجماعات الكشافة تنتقل من شارعٍ إلى آخر، وأناشيد البنين وأهازيج البنات، يهتف بها التلاميذ والتلميذات هنا وهناك..».
أدهشه كلّ ذلك، بل أشعره بالفرح والفخر.. لقد «طُرح نير الظلام، وشُلّت يد الاستعباد».. ساعاتٌ مع الاحتفال الشعبي، بانتظار الاحتفال الرسمي.. عرضٌ عسكريّ وجماهيرٌ تتزاحم وهي تتقدّم.. البعض منها يتدلّى من المآذن وأجراس الكنائس، والبعض من الأشجار وأعمدة الإضاءة والأسوار.
كلّ هذا وغيره، شهدّه «الحكيم» في سورية، يوم احتفلت بجلاء المستعمر الفرنسي عن أرضها.. شهده وبقي في ذاكرته، مثلما في ذاكرة التاريخ الذي سيبقى أبده، يذكّر بذاك الاحتفال، مثلما بغيره من الاحتفالات التي نشهدها ويشهدها أيضاً، كُثرٌ ممن امتشقوا أقلامهم ودوّنوا، لحظات انتصارها على كلّ عدوٍّ ومحتلٍّ ومعتدٍ، استحقّ أن يُدحر فدحرته وبقيت، تُشرق مع كلّ فجرٍ للكرامةِ، لتضيء الحياة نصراً، ترفرف راياته أبداً في سمائها.
