لينا كيلاني:
في زمن كثرت فيه الفضائيات وعوالم الذكاء الصناعي بما تنطوي عليه من مهارات وأعاجيب، وبعد أن بات العالم يبدو لا كقرية صغيرة كما يدّعون، بل أصغر منها بكثير، وبعد أن اكتسحت العولمة كل دول الأرض أصبحت الثقافات على تنوعها وتبايناتها تواجه التحديات التي يمكن لها أن تطمس بعضها لحساب بعضها الآخر، فالتجاذبات الثقافية والتكنولوجية مكّنت المعلومات وما تحمله من أفكار، وكذلك المنتجات الصناعية وما تحتوي عليه من إمكانات تسهل الحياة، أقول مكّنتها جميعاً من أن تنتشر عبر الحدود، لا بل عبر القارات بسرعة فائقة.
وفي ظل هذا التحول العالمي، يبدو أن أي هوية قابلة لأن تتعرض للتهديد، إذ يتم في سبيل العولمة توحيد الثقافات والقيم والعادات، حتى أصبح أمر الحفاظ على الهوية ضرورياً لكل فرد ومجتمع على حدٍ سواء. فالهوية هي تعبير عن مَنْ أنت، وبماذا تؤمن، وهي التي تشكّل جوهر وجودك في هذا العالم المضطرب الذي يموج بالصراعات، والنزاعات مختلفة الاتجاهات والغايات.
ولكن.. قبل الحفاظ على الشيء لابد من التعرف إليه جيداً، وفهم أثره وقيمته، فتراثنا، وثقافتنا ضاربة جذورهما في التاريخ الإنساني، وقد استقت منهما الحضارات علوماً وآثاراً، واكتشافاتٍ ساهمت بدورها في تقدم عجلة الحضارة عبر العصور، ويكفي أن نعرف أن ما يسمونه (الخوارزميات) في يومنا هذا إنما يعود أصل الكلمة إلى العالِم (الخوارزمي) الذي أرسى دعائم النظام العشري، والذي عُرف بنظام الأرقام الخوارزمية في علم الرياضيات نسبة له، وإليه يعود الفضل في علم الجبر، واستخدام الصفر كعدد في النظام الحسابي أيضاً ليصل متأخراً إلى الغرب.. علوم مازال العلم الحديث ينهل من بحرها الواسع حتى الآن.
إذاً.. ماذا سيكون مصير أي شعب إذا ما فقد هويته التي تميزه عن غيره من الشعوب؟ لاشك أنه الضياع والفراغ ما سيشعر به فاقد الهوية.. ونحن الذين اندمجنا بالحضارة الغربية بعدما أبهرتنا بمنجزاتنا حتى كدنا نذوب فيها، وننسى أصالتنا ومسيرتها الطويلة.. كدنا ننسى القيم التي تشكل أساساً للهوية، وتحدد السلوك، ونمط التفكير.. فما بالنا ونحن نتبنى قيماً غربية لا تمت لنا بِصلة، ولا تتناسب مع تاريخ حضارتنا العربية بينما نظهر ذلك في تعاملاتنا مع الآخرين، وفي قراراتنا!
أما لغتنا.. وهي الأجدر بأن نحافظ عليها سليمة صافية لا شوائب فيها فنصونها من أن تخترقها العامية العرجاء، والكلمات الأجنبية الجوفاء في محادثاتنا، وكتاباتنا.. فلغتنا هي وجهنا الحضاري، فلماذا كثيرون يحملون فؤوس التهديم فيها ليفسدوا جمالياتها؟! وهذا الأمر لا يقتصر على وسائل التواصل، بل أيضاً وصل إلى الفضائيات في كثير من المقابلات حتى لتكاد لا تعرف ماذا تتابع، ولا بأي لغة ينطق هؤلاء المتصنِّعون.
وما بالنا أيضاً بأعمالنا الفنية من دراما، وسينما فهي تجتر المقولات العالقة في الأذهان من أزمان وأزمان دون تجديد، أو تحديث بل إنه التكرار لما سبق بقوالب جديدة.. وهذا لا يعني بالتالي الحفاظ على التراث، بل لإحياء التراث فضاءاته في المناسبات الثقافية ولمنع اندثاره بينما يدعمه الفنانون والكتّاب والموسيقيّون من خلال أعمالهم الفنية والأدبية.
تراثنا الذي هو جزء لا يتجزأ من هويتنا فإن نقله بطريقة صحيحة إلى الأجيال القادمة واجب علينا.. وإذا ما حافظنا على هويتنا فإن هذا لا يعني الانغلاق، بل إنه الشعور بالفخر والكبرياء، واحترام الذات، والوقوف على قيمتنا الحقيقية التي تحفظ لنا التوازن فلا نفقد أصالتنا، وتميزنا الثقافي عند الانفتاح على الثقافات الأخرى لاجتذاب الجيد، والمفيد لديها إلى هويتنا المعاصرة بهدف بناء جسور التواصل، والتفاهم المتبادل بين الثقافات المختلفة في زمن تمازجها، واقترابها بعضها من بعضٍ لتصل صورتنا الحضارية للعالم بالتالي، وتوسيع قدرتنا على التواصل، وفهم الثقافات المختلفة.
إن الهوية ليست شيئاً ثابتًاً، بل هي متغيرة، وديناميكية، وبإمكاننا أن نطورها، ونعززها في ظل التحولات العالمية الراهنة، ولكن بشرط ألا نُفقدها وجهها الحقيقي.
السابق