الثورة _ لينا إسماعيل:
طالما لفتني ذاك الطفل الذي لا يتجاوز السابعة من عمره، وهو يقضي ساعات يومية على شرفة منزله المطلة على نافذتي من بعيد، حتى غدوت أرقبه وقلبي يرتجف خوفًا عليه، ذلك أنه يتفنن في اللعب بأسلاك متشابكة مع مثيلاتها لمنازل مجاورة، وتمضي به الساعات والأيام القارسة مستنزفة طاقاته المهدورة مابين العبث والخطر في غفلة عن ذويه، وكلما تمعنت شغفه للعب ولو بمجرد أسلاك مهترئة راودتني تساؤلات مريرة ..كم من البراعم في وطني تغتال طفولتهم ورغباتهم الجامحة في محاكاة طبيعتهم الفطرية !وذلك في ظل افتقاد البيئة المناسبة لتفريغ هذه الطاقات الصارخة والمكبوتة في آن معاً ؟! ولماذا يدفعون ثمن غفلة الكبار و قصور وعيهم حينًا، وغالباً عجزهم عن مواكبة التأسيس لمستقبل واعد قوامه هؤلاء البراعم، الذين تجرعوا مرارة العنف هناك، والقهر والحرمان هنا، الجهل والعصبية وغيرها من مظاهر الضغوطات التي تعيشها هذه البقعة خاصة خلال السنوات الأخيرة.
ماذا أعددنا لهم لننتظر منهم ؟ وأي صورة نستشرفها لمستقبل أطفالنا وأغلبنا مشغول بحاضره الثقيل مهما اجتهدنا للانعتاق من مفرزاته ؟! فهناك عوامل اجتماعية واقتصادية ومعيشية باتت متجذرة في حاضرنا لايمكننا تجاهلها أو تجاوزها، وهي بالمحصلة تنعكس بشكل أو بآخر على فلذات أكبادنا وإن لم يفلحوا في التعبير اللفظي عن إحساسهم بها، ولكي لانذهب بعيداً، نحن الآباء والأمهات اليوم أمام خيارات لا مفر من الاستسلام لها مابين الرضوخ لإدمان أطفالنا ساعات على اليوتيوب و الألعاب الإلكترونية ومخاطرها الجسدية والإدراكية المحققة، ومابين اللعب في الأزقة والحارات المثقلة بنوازع متباينة الأخلاق والسلوكيات، أما شريحة رواد النوادي الرياضية والمعاهد الفكرية والفنية من موسيقا ورسم وما إلى ذلك فهي لاتتجاوز العشرة بالمئة مقارنة بالظروف الاقتصادية الصعبة التي نعيش، نظرًا لعجز السواد الأعظم من المجتمع العربي عن مجاراة اشتراكاتها المادية المرهقة، وليس كل طفل موهوب لكن كل أطفالنا بحاجة لمتنفس للعب والتفاعل الصحي مع المحيط ، في الوقت الذي يداهم فيه الخطر الأخلاقي والنفسي والسلوكي أغلى مالدينا من كل الاتجاهات، وبكل الوسائل المتاحة، حتى برامج الأطفال المدبلجة التي تعرضها قنوات عربية لم تعد تحاكي الطفولة في مجملها، وإنما خطط لها تشويه الفكر والخيال والمدارك بعبثيتها أو بإيحاءاتها الجنسية المحرجة، في حين أطلت برامج أطفال عربية على خلفية دينية بحضور متواضع يفتقد الدعم الترويجي والحرفية الجاذبة لعقول واهتمامات الطفل.. وإن كانت الفكرة ناجحة وتلبي حاجة ثقافية وفكرية وروحية لدى الطفل العربي في التعرف على شخصيات تاريخية رائدة وقصص من القرآن نحتاج جميعًا لتنشيط ذاكرتنا حيالها، ومالم نعي حقيقة هذا الخطر ونتعامل معه بالوعي المطلوب، ذلك أن المنع باللاءات، وغلق الأبواب، ومصاحبة أطفالنا إلى مدارسهم ليس كافيًا لحمايتهم في ظل وجود طاقات كامنة متراكمة لهذا الجيل الذي شهد انفتاحًا إلكترونياً غير مسبوق بالتوازي مع أقسى الظروف واقعياً.. وبالتالي بات واجباً علينا جميعاً توجيه الأفكار والإمكانيات المادية بداية : لتكريس شعار «أطفالنا أولاً» والانطلاق منه لتبني مشاريع استثمارية كلنا بحاجة إليها لاستقطاب أطفالنا واحتوائهم فيها، واجب علينا كل من موقعه توجيه الاهتمام والترويج لافتتاح نواد وصالات رياضية ومعاهد للتنمية الفكرية والفنية، وتوفير الدعم المادي والتسهيلات الحكومية لها لتكون متاحة للجميع في كل الأحياء والمناطق والضواحي ريفًا ومدينة وبأسعار رمزية تشجيعية، واجب على مجالس المدن تنفيذ حدائق عامة لائقة، وتوفير الألعاب الآمنة ضمنها في كل الأحياء والمجمعات السكنية الحديثة والقديمة، وخاصة الشعبية لتكون متنفسًا متاحًا للعائلة بدلاً من الاستيلاء على أملاك الدولة من قبل البعض، فأطفالنا أولى بالاستفادة منها إن كنا نعي أهمية صناعة المستقبل.
من الأهمية تفعيل دور حصص الرسم والموسيقا والرياضة في المدارس لتفريغ طاقات الأطفال واليافعين ضمن أوقات من حقهم ولهم .. وهي قضية شائكة بحد ذاتها، مطلوب العمل على إعداد برامج تلفزيونية خاصة بدعم مادي مواكب تحاكي أطفالنا بلغتهم ، ومسلسلات جاذبة تمتلك مقومات التوجيه والبناء بأدوات مبهرة ترتقي إلى مستوى مداركهم، فكما أن أغلب الدول العربية أخذت على عاتقها توفير الدعم الصحي للمواطنين من خلال المشافي والمستوصفات والمراكز الصحية العامة، وخصصت لها من ميزانياتها أموالاً ضخمة تغطي حاجة المجتمعات للخدمات الطبية والعلاجية والإسعافية، مطلوب اليوم وضع استراتيجية جديدة شاملة لدعم احتياجات الطفولة، واستثمار طاقات الأطفال لصالح مستقبلهم.