الثورة – تحقيق هلال عون:
لم يعد غريباً أن ترى أطفالاً ورجالاً ونساء يتسولون في كل حي من أحياء أقدم مدينة مأهولة في العالم “دمشق”! نعم هذا واقع، وهذه صورة كئيبة من صور دمشق الآن، إنها صورة مؤلمة، وغريبة عن عراقة هذه العاصمة، وغير لائقة بها، لكنّ لهذه الصورة أسبابها.. في هذا التحقيق الصحفي نقف على الأسباب وعلى الحلول الممكنة لهذه الظاهرة.
أمام محطات الوقود
(أحمد …) طفل يبلغ من العمر عشر سنوات، ويحمل بيده علبةَ بخاخ، فيها ماء ممزوج بسائل ملمّع للزجاج، وقطعة قماش للتنشيف، ويقف عند تقاطع إشارة محطة محروقات الجلاء مع أتوستراد المزة، ويطلب الإذن من أصحاب السيارات التي تتوقف على الإشارة لمسح زجاجها وتلميعه، مقابل ما يجود به صاحب السيارة الذي يوافق.
سألتْه صحيفة الثورة عما إذا كان بالمدرسة فأجاب: إنه لا يذهب إلى المدرسة، وأن والده متوفى، وأنه يصرف على أمه المريضة.
وعندما سألناه عن منزله، وأننا نريد زيارته، نظر نظرة توجّس، وهمّ بالابتعاد، فسألناه: ما رأيك أن نعلمك مهنة، كالحلاقة، مثلاً لتعمل بها بدلاً من التسوّل؟.. لم يرد وذهب باتجاه سيارة توقفت على الإشارة الحمراء.
ويبدو أن هناك عصابات تشغّل الأطفال في التسول.. فقد قال الإعلامي (علي . ا) لـ”الثورة”: كنت واقفاً أمام فندق الفورسيزن بدمشق، فجاءني طفل (متسول)، عمره نحو عشر سنوات، وعندما غادرني وقفت أراقبه، وذهب باتجاه طفل آخر، ثم توقف معه، وبعد دقائق قليلة أصبحوا أربعة أطفال في عمر واحد تقريباً، وخلال ثوان جاء رجل ووقف معهم لمدة لا تزيد على دقيقتين، فأعطوه ما في جيوبهم ثم أعاد توزيعهم وغادر بسرعة.
انتهاك براءة الطفولة
منذ فترة ليست بعيدة، تحدّثت وسائل الإعلام السورية عن “طفلة حامل”، تعيش على التسول في شوارع جرمانا بريف دمشق.
المحامي خليل صالحة، قال تعليقاً على الحادثة: إن هذه الجريمة تعتبر بمثابة مجموعة من الجرائم، تنضوي تحت اسم اغتصاب قاصر، نتج عنه حمل، غير معروف النسب، إضافة إلى جريمة التسول، التي غالباً ما تقف خلفها عصابات محددة، وحتى إذا كان الأهل هم من دفعوا بهذه الطفلة إلى الشوارع، فإنهم يتحملون وزر هذه الجريمة النكراء بحق الطفولة، وإن تبعات هذه الجريمة ستلاحق المولود طيلة حياته من دون ذنب اقترفه، كما أنها ستلاحق الطفلة الأم طيلة حياتها، اجتماعياً، ونفسياً وصحياً، لذلك أقترح تشديد العقوبات ضد من يشغلون الأطفال في التسول، وتشديد العقوبات أكثر في حال نتج جرم بحق الطفل المتسول.
لا شك أن الفقر هو أحد الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى تسوّل الأطفال، فالعديد من الأسر في دمشق تعيش تحت خط الفقر، وخاصة بعد سنوات من الحرب التي أدت إلى تدهور الوضع الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، ما دفع بعض الأهالي إلى إرسال أطفالهم للتسول من أجل الحصول على لقمة العيش.
المحامي بسام قشمر تحدث عن ظاهرة التفكك الأسري نتيجة الطلاق، أو وفاة أحد الوالدين، الأمر الذي يؤدي إلى تركهم من دون رعاية كافية، وبالتالي إلقاؤهم في قلب الشارع، وفي بعض الحالات، يتعرض الأطفال للعنف الأسري، ما يدفعهم إلى الهروب من المنزل والانخراط في التسول.
ولفت إلى غياب الرقابة الاجتماعية، وضعف دور المؤسسات الحكومية في رعاية الأطفال، وللأسف يأمن العقوبة من يشغِّلون الأطفال، ولا يتم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضدهم، لذلك فهم يتجرؤون على القانون، ويسيؤون الأدب “، والمثل يقول: “من أمن العقوبة أساء الأدب”.
تشويه صورة المجتمع التربوية
نداء حسين، من تربية دمشق، رأت أن تسول الأطفال يشوه صورة المجتمع الدمشقي ويعكس واقعاً مؤلماً في العاصمة السورية، وفي ظل تزايد أعداد الأطفال المتسولين، يواجه المجتمع تحديات في الحفاظ على القيم الإنسانية والتضامن الاجتماعي، إذ يصبح التسول جزءاً من الملامح اليومية في شوارع المدينة، وغالباً لا تتاح للأطفال الذين يتسولون فرصة الحصول على تعليم جيد، مما يهدد فرصهم في بناء مستقبل أفضل، وهذا الأمر يؤدي إلى دورة من الفقر والجهل التي قد تستمر لأجيال عديدة.
مدير مكتب التسول في مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل، خزامى النجاد أكدت في تصريح سابق “أن الفقر والبطالة، وتفكك البنى الأسرية، وضيق الأوضاع الاقتصادية، هي أهم أسباب ظاهرة التسول في سوريا، إلى جانب من يتخذها مهنة، وأن غالبية الأطفال المتسولين، إما يتم تشغيلهم من قبل أهاليهم أو أقاربهم، وإما يتم تشغيلهم من قبل مشغلين ضمن شبكات، وبعض الأهالي يلجؤون للتسول برفقة أطفالهم مستغلين عاطفة المجتمع تجاههم”.
وقالت في تصريحها: “إن مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل تقوم بمتابعة هذه الحالات عبر مكتب مكافحة التسول بدمشق بالتنسيق مع أقسام الشرطة لرصد حالات المتسولين وتنظيم الضبوط اللازمة والحصول على موافقة المحامي العام لإيداعهم في مراكز مخصصة لهم، وإنه يوجد حالياً نحو ٢١٠ حالات تسول موزعة على مراكز وجمعيات الوزارة، وتوجد 54 حالة من الإناث في مؤسسة حقوق الطفل بباب مصلى تتراوح أعمارهم بين 4 و19 سنة، و58 حالة من الذكور في نفس المؤسسة ونفس الفئة العمرية، بينما يوجد 10 حالات أخرى في دار تشغيل المتسولين والمتشردين في الكسوة،.
وأوضحت أن المديرية تعمل على متابعة من يتم إيداعهم في المراكز، من حيث الرعاية الطبية والصحية والدعم النفسي، وتنظيم الأنشطة الرياضية لهم، إلى جانب إعادة البعض منهم للمدارس والتعليم، وأن هناك خطة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لترميم وتأهيل مركز تشغيل المتسولين والمتشردين في الكسوة، الذي تصل طاقته الاستيعابية إلى نحو 250 شخصاً، مع تفعيل دور الورشة والمهن داخله، بحيث يكون المتسول مؤهلاً وقادراً على العمل بعد خروجه من المركز، كما يجري العمل على دراسة أوضاع أسر المتسولين لإيجاد فرص عمل لهم ودمجهم ضمن برامج التمكين المهنية، بالإضافة إلى العمل على افتتاح مراكز جديدة لتأهيل ورعاية حالات المتسولين”.
إعادة تأهيل
وعن الحلول الممكنة لمواجهة هذه الظاهرة، تحدث المحامي بسام قشمر عن ضرورة بذل جهود حثيثة لتحسين الوضع الاقتصادي في دمشق، وتوفير فرص عمل للأسر الفقيرة، دعم المشاريع الصغيرة وفتح مجالات العمل للتقليل من الحاجة إلى إرسال الأطفال للتسول.
ودعا لتعزيز القوانين التي تحمي حقوق الأطفال، وتوفير برامج توعية للأسر عن حقوق الأطفال وأهمية رعايتهم، مشدداً على معاقبة الأشخاص الذين يستغلون الأطفال في التسول بأقسى العقوبات.
الخبير الإداري والاقتصادي الدكتور عبد المعين مفتاح دعا لإعادة تأهيل الأطفال المتسولين، من خلال تقديم برامج الدعم النفسي والتعليمي لهم، مع توفير مأوى آمن وفرص تعليمية تساعدهم في العودة إلى حياتهم الطبيعية.
وأضاف: إن ظاهرة تسول الأطفال في دمشق تمثل تحدياً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً، ومن خلال العمل المشترك بين الحكومة والمجتمع المدني، يمكن الحد من هذه الظاهرة وتقديم الدعم الكافي للأطفال المتسولين، وأن ضمان حقوق الأطفال وتوفير بيئة آمنة وصحية لهم يجب أن يكون أولوية لكل مجتمع يسعى نحو مستقبل أفضل.