الثورة – بتول أحمد:
في عالم يتجه نحو الرقمنة، أصبح الهاتف الذكي ليس أداة اتصال فحسب، بل شريان حياة اقتصاديّ للنساء، وفي ظل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، برز التسويق الإلكتروني كأحد المسارات البديلة للرزق، خاصة للنساء اللواتي وجدن فيه مساحة للعمل من المنزل، وتحقيق دخل مستقل، بعيداً عن القيود الاجتماعية أو ضعف البنية التحتية التقليدية، لكن هذا التحول الرقمي لا يخلو من تعقيدات قانونية، تقنية، واجتماعية، تستدعي قراءة متأنية للواقع الجديد.
من الشعبي إلى الرقمي
لم تعد النساء بحاجة إلى محل تجاري أو رأس مال كبير لبدء مشروعهن، يكفي هاتف ذكي، حساب على “فيسبوك” أو “إنستغرام”، ومجموعة واتساب نشطة.
تقول رنا، 32 عاماً، من دمشق: “بدأت ببيع مستحضرات تجميل عبر إنستغرام، واليوم لدي زبائن من السويداء، وحلب، وطرطوس، عملي من المنزل وفر لي استقلالية لم أكن أحلم بها.
” في حلب، تبيع أم محمد، 45 عاماً، ألبسة نسائية عبر مجموعات واتساب، لكنها تواجه انتقادات من محيطها: “أحياناً أشعر أنني أواجه مجتمعاً بأكمله لأبيع قطعة قماش.”
تحليل اقتصادي واجتماعي
أحدث التسويق الإلكتروني تحولاً نوعياً في حياة النساء السوريات، إذ فتح أمامهن آفاقاً جديدة للعمل من المنزل، بعيداً عن القيود التقليدية التي طالما حدّت من مشاركتهن الاقتصادية.
في ظل غياب الحضانات وصعوبة التنقل، خاصة في المناطق التي تعاني من ضعف الخدمات، بات الهاتف الذكي وسيلة إنتاج، والمنزل مساحة عمل.
هذا النمط الجديد لا يتطلب رأس مال كبير، فبمبلغ بسيط يمكن للمرأة أن تبدأ مشروعها، سواء عبر البيع المباشر أم إعادة بيع منتجات مستوردة، محققة أرباحاً قد تفوق دخل الوظائف التقليدية.
من خلال المنصات الرقمية، استطاعت النساء توسيع نطاق عملهن، والوصول إلى زبائن خارج الحي، إلى المدينة، بل خارج الحدود السورية.
هذا التوسع لم يمنحهن فقط فرصة اقتصادية، بل عزز شعورهن بالاستقلالية، ورفع من ثقتهن بأنفسهن، خاصة في مجتمع لا يزال يربط دور المرأة بالمنزل والرعاية.. لكن هذه الفرص لا تخلو من تحديات، مثل ضعف الإنترنت والانقطاعات المتكررة في الكهرباء، ما يعيقان التواصل مع الزبائن، ويؤخران عمليات البيع والتوصيل، كما أن غياب التنظيم القانوني للتجارة الإلكترونية يجعل النساء عرضة للمساءلة، خاصة عند التعامل ببضائع مهربة أو من دون ترخيص رسمي.
يضاف إلى ذلك نقص التدريب الرقمي، ما يحد من قدرة النساء على المنافسة، ويجعل بعضهن عرضة للاستغلال من قبل وسطاء أو موردين غير أمناء.
اجتماعياً، لا تزال بعض النساء يواجهن ضغطاً من محيطهن، خاصة في البيئات المحافظة، حيث يُنظر إلى “الظهور العلني” على الإنترنت أو التعامل مع رجال غرباء على أنه خروج عن المألوف، هذا الضغط قد يدفع بعضهن إلى العمل بسرية أو التراجع عن مشاريعهن رغم نجاحها.
ويؤكد الدكتور سامر العلي، الباحث الاقتصادي في مركز دراسات التنمية المحلية، أن “التسويق الإلكتروني بات يشكل رافعة اقتصادية حقيقية للنساء، خاصة في المناطق التي تفتقر إلى فرص العمل النظامية، لكنه لا يمكن أن يتحول إلى قطاع منتج ومستدام دون تدخلات حكومية واضحة، تشمل تنظيمه قانونياً، وتوفير بنية تحتية رقمية، وبرامج تدريبية تستهدف النساء تحديداً.
” ويضيف، ما نراه اليوم هو مبادرات فردية ناجحة، لكنها مهددة بالانطفاء ما لم تُحتضن ضمن رؤية تنموية شاملة.
وفي نفس الصدد أكدت الدكتورة سمر الحاج، خبيرة في الاقتصاد الاجتماعي أن التسويق الإلكتروني ليس مجرد وسيلة بيع، بل هو مساحة جديدة لإعادة تعريف دور المرأة في الاقتصاد السوري، لكنه بحاجة إلى تنظيم قانوني، وتوفير تدريب رقمي للنساء، خاصة في المناطق الريفية.
في المحصلة، يمثل التسويق الإلكتروني فرصة حقيقية للتمكين الاقتصادي للنساء في سوريا، لكنه يحتاج إلى دعم تقني، قانوني، واجتماعي ليصبح مساراً مستداماً لا مجرد حل مؤقت في زمن الأزمات.
التسويق الإلكتروني في سوريا ليس ظاهرة عابرة، بل تحول اقتصادي واجتماعي عميق، تقوده النساء من خلف الشاشات، وسط تحديات يومية.. وبين الطموح والواقع، تكتب السوريات قصصاً من الصمود، والابتكار والنجاح، والبحث عن مستقبل أكثر عدالة واستقلالية.