الملحق الثقافي- حبيب الإبراهيم:
قلّما نجد كتاباً أو منجزاً إبداعياً لا يتضمن مقدمة تعرّف به، أو كلمة أولى تعطي القارىء لمحة موجزة أو ملخصاً مقتضباً لماهية المضمون، وهذه المقدّمة تتعدد مسمياتها وأشكالها، فعند بعض الكتّاب ( تمهيد، استهلال، بدلاً من مقدمة، هذا الكتاب، توطئة، مدخل، تصدير، أو.. ….) وغيرها من مسمّيات تؤدي نفس الغرض وتحقق ذات الهدف.
إلى جانب ذلك هناك الغلاف ويتضمن اسم المؤلف والعنوان ودار وعام النشر، وكلمة الغلاف واللوحة الفنية المعبّرة عن المضمون، كل ذلك يندرج تحت مسمى العتبات النّصية.
ويرى الدكتور مرشد أحمد في كتابه (جماليات التعتيب النصي في شعر الحداثة) بأنّ العتبات النّصية ( هي جزء من نظام معرفي قائم بذاته له خصائصه التمييزية وأبعاده الجماليّة يكسب النص الشعري قيمة إبداعيّة تسهل نقل مقاصده وتعمق أدبيته وتوسع جماليات تلقيه على مستوى التداول القرائي).
إنّ محاولة قراءة أيّ كتاب مهما كان نوعه لا بد من الوقوف على عتبته، كما هي عتبة البيت أو الدار إذ لا يمكن الولوج إلى داخله ومعرفة أقسامه ومحتوياته قبل أن تطأ أقدامنا عتبته، كذلك الكتاب لا بد من الوقوف عند العتبات النصية وأخذ انطباع أولي عن مضمونه وحيثياته، من خلال المقدمة أو كلمة الغلاف والتي غالباً ما تكون بقلم المؤلف أو الناشر أو أديب آخر يدلي بدلوه وفق منظوره الأدبي والمعرفي والنقدي.
لذلك ازداد الاهتمام بدراسة العتبات النّصية كونها تشكل قيمة إبداعية مضافة، ولا يمكن فهم وتحليل محتوى النّص الأساسي إلا من خلال عتباته والتي أصبحت جزءاً مهمّا من أي كتاب يتم الاشتغال عليه بمهنية وحرفيّة عاليتين.
لكن في الغالب، أو هكذا تعودنا ومن خلال متابعاتنا للإصدارات الجديدة التي تُطرح، وبمختلف أشكالها وأنواعها، غالباً ما تكون المقدمة بقلم المؤلف حيث يقدّم فيها لمحة سريعة يتم فيها ترغيب القارىء ودعوته للقراءة وتقبّل أية ملاحظات.
وفي أحيان ٍ أخرى يكتب المقدمة أو التقديم للكتاب كاتب آخر يدعوه صاحب الكتاب الأصلي لكتابة المقدمة وبيان رأيه النقدي فيما قرأ، حيث يقدّم قراءة موجزة وتحليلاً نقدياً مختصراً لمضمون الكتاب وهذا أصبح تقليداً أو عرفاً عند عدد غير قليل من الكتّاب والشعراء والباحثين و…
وتأتي أهمية العتبات النّصية من كونها المؤشر الأولّي لمضمون المتن، سواء أكان قصة أم رواية، أم مجموعة شعرية، أم…
فالعنوان شيء مهم لجذب القارىء وتشكيل الانطباع الأولي لأي كتاب يقع بصره عليه، وهذا ما يؤكده المثل الشعبي (المكتوب يُقرأ من العنوان).
في السنوات الأخيرة ثمّة ظاهرة تلفت الانتباه تتجلى بقيام كاتب أو شاعر أو باحث بكتابة مقدمة لكتاب أو قصة أو رواية أو… حيث يقدم رؤيته وتحليله النقدي للمنجز الجديد، وبعض هذه المقدمات يبدو طويلاً نسبياً مع حجم الكتاب الجديد، ولا تغيب المحاباة و العلاقات الشخصية عن التقييم، وبالتالي تبدو المقدمة مدحاً وثناء ً في بعض الأحيان.
أياً يكن التقديم ومستواه وهدفه، ومن يقدم من؟ فإنه جزء من موضة سائدة يجب اللحاق بركبها، كما هي موضة حفلات توقيع الكتب، وبالتالي نحن أمام حالات متداخلة مرتبكة، وربما لا تحقق الأهداف المرجوة منها..
من جهة آخرى لا يمكن لأي مقدمة مهما كان مستوى كاتبها أن ترفع من سوية نصوص ضعيفة، هزيلة، لا ترقى للنشر وأن تكون بين دفتي كتاب، لذلك نجد بعضاً ممن يغامرون بإصدارات جديدة اللجوء إلى كتّاب ٍ وأدباء مشهورين لكتابة مقدمات لإصداراتهم الجديدة ظناً منهم أن تلك المقدمات تمنحهم الشرعية وترفع من مستوى تلك الإصدارات.
لا شك أن المقدمات تعدّ مؤشراً مهماً لفهم مضمون أي كتاب من خلال جملة الأفكار والشروحات والرؤى النقدية لمتن الكتاب والذي يمكن أن يكتنفه الغموض أو الالتباس في كثير من أبوابه وأقسامه، وتُعدُ مفتاحاً أساسياً لفهم النص وسبر أغواره وتحليل بنيته اللغوية والجمالية.
وإن كانت المقدمة والتمهيد والكلمة الأولى والإهداء تؤدي نفس الغرض وتحقق نفس الغاية، فإن نظريات النقد الأدبي تطورت مع تطور أدوات ونظريات الكتابة والإبداع، وهذا لم يتوقف عند الكتابة والتأليف و الأدب والإبداع فحسب، إنّما امتد ليشمل النظريات التربوية المتعلقة بالمناهج وطرق التدريس و…، فما كنا نسميه (مقدمة، تمهيد) في بداية الكتاب أو الدرس في المناهج المدرسية القديمة، والتي تقدم ملخصاً لمضمون الكتاب..تحوّل حالياً إلى (منظم متقدم) لكل وحدة أو درس في المناهج المطورة.
ربما التغيير في الشكل يساعد في تهيئة وتبسيط الأفكار وسهولة فهمها واستيعابها من قِبل القارىء لذلك نجد هذا الاهتمام المتواصل في عتبات النصوص الأدبية والإبداعية وتقديم كل ما هو جديد بأبسط الوسائل وأنجع الطرق.
العدد 1187 –30-4-2024