الملحق الثقافي – حبيب الإبراهيم:
(الشهادة استمرارللحياة، وهي الوجه الأنصع والأرحب لها، والشهادة ليست إلا نقلة نوعية من صفحة الحياة الضيقة إلى صفحة الحياة الرحبة التي لا تحدّها حدود، وهذه هي صفحة الخلود، وأن تخلد يعني أن تحيا أبداً، فالشهادة خلود، والشهيد خالد أبداً فهو حي أبداً).
بهذه الكلمات والمفاهيم والقيم عبّر القائد المؤسس الخالد حافظ الأسد عن عظمة الشهادة والشهيد ودورهما في بناء الوطن والإنسان، الإنسان المؤمن بوطنه و قضيته، المدافع عن قيم الحق والعدل، واستعداده الدائم للبذل والتضحية دفاعاً عن العزّة والكرامة.
أن تكتب عن الشهادة والشهداء يعني أن تكتبَ عن الطُهر بأبهى صوره، وأنقى سرائره، عن البطولة والشرف ،عن الفداء والعطاء، عن الخلود الأبدي ،عن القيم الإنسانيّة ،بأرقى تجلياتها… لأنهم الشُّهداء، رمزالتضحية والفداء، كانوا في المقدمة، في الطليعة، سيّجوا الوطن بدمائهم الزكية، وأرواحهم الطاهرة ،وعبروا إلى الخلود الأبدي …
ولأنهم رفضوا الخنوع والرضوخ والاستسلام لإرادة المحتل العثماني ، الذي أراد اسكات الصوت المقاوم، وإخماد جذوة النضال والتحرر.
ولأنهم طالبوا بأبسط حقوق بلادهم بالحريّة والاستقلال، أمر جمال باشا السفاح والي دمشق العثماني بإعدامهم
في السادس من آيارعام 1916، فكانت الأمة على موعد جديد ٍمع الضياء ،وبداية انتصار الحق والمقاومة، إذ لا انتصار بلا تضحيات، ولا استقلال بلا شهداء….
لقد شكّلت الشهادة والشهداء مادة غنية، ومحوراً هاماً وموضوعاً بارزاً في كتابات وإبداعات الكتّاب والشعراء في مختلف العصور والأزمنة، فكانت القصائد حاضرة في دواوينهم و كتاباتهم تمجد الشهادة، وتحض على مقاومة المحتل الغاصب، والتضحية بالروح والدم دفاعاً عن الوطن وترابه الطاهر.
ولأنهم (أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر) تنحني لهم الهامات إجلالاً وإكراماً، يقول الشاعر: (القروي) معبّراً عن عظمة الشهداء الذين جادوا بأرواحهم الطاهرة، وسقوا بدمائهم الذكية ثرى الوطن.
(خير ُ المطالع تسليم على الشهدا
أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا
فلتنحني الهام إجلالا و مكرمة
لكل حر عن الأوطان مات فدى)
ولم يبخل الشعراء يوماً في تقديم كل غال وثمين، من أجل الحريّة والكرامة، ومقاومة المحتل الغاصب والاستشهاد في سبيل القضية، وها هو الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود يقول :
(سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدى)
ولأنها دمشق عزّ الشرق، بوابة الانتصار، مشعل الحق، السيف الدمشقي الذي هزم الغزاة في كل المواجهات، فقد عبّد الشهداء بطهر دمائهم دروب الحرية، لذلك حضرت دمشق والشهادة بقوة وفخر واعتزاز في قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي :
(سلام ٌ من صبا بردى أرّق
و دمع ٌلا يُكَفكَف يا دمشقُ
و ذكرى عن خواطرها لقلبي
إليكِ تلفّتٌ أبدا و خفقُ
دمُ الثوّار تعرفه فرنسا
و تعلم أنه نورٌ و حقُّ
(و للحرية الحمراء بابٌ
بكلِ يدٍ مضرجةٍ يُدقُّ
جزاكم ذو الجلال بني دمشق
وعزُّ الشرق أوله دمشق)
ومهما اشتد ّ الظلام وتمادى المستعمر في غيّه وطغيانه وعدوانه، فإن دماء الشهداء الطاهرة الذكيّة، ترسم ُ للأجيال طريق الحرية والاستقلال، فالحق سيعود لأصحابه وستشرق الأنوار من جديد مبشّرة بفجر الحرية، يقول الشاعر الكبيرعمرأبو ريشة في (يا عروس المجد) :
( ياعروس المجد تيهي واسحبي
في مغانينا ذيول الشهب
لن تري حفنة رمل فوقها
لم تعطر بدما حر أبي
درج البغي عليها حقبة
وهوى دون بلوغ الأرب
وارتمى كبر الليالي دونها
لين الناب كليل المخلب
لا يموت الحق مهما لطمت
عارضيه قبضة المغتصب)
أما شاعر العروبة الكبير سليمان العيسى فقد كانت الشهادة حاضرة بقوة في أشعاره وقصائده الموجهة للكبار والأطفال، والتي ركّزت على قدسية الشهادة ومعانيها السامية، وهؤ الطريق الوحيد لتحقيق الانتصار، فالشهيد يحتل المكانة المثلى في عقول وأفئدة الناس يقول في ذلك :
(ناداهم البرق فاجتازوه وانهمروا
عند الشهيد تلاقى الله والبشر
ناداهم الموت فاختاروه أغنية
خضراء مامسها عود ولاوتر‌
تعانق النسر والتاريخ ملحمة
وكبّرالعشب والينبوع والحجر‌)
إنّ المحتل راحلٌ مهما طال الزمان، هو راحل ٌ ومهزوم أمام تضحيات الشهداء الذين استعذبوا الموت لتحيا الأجيال القادمة بعزة وكرامة، يتابع الشاعر العيسى قائلاً :
(قل للحضارات: لن تمحي بزوبعة
سوداء تطغى ؛ فتستعلي ؛ فتنكسر
قل للغزاة: كأسلاف لكم ؛ خبر
أنتم على أرضنا ان تنتفض ؛ خبر
لأننا – وجذور الشمس في يدنا –
نقاتل الحلك الباغي سننتصر)
والشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري يخاطب الشهيد، في
يو م الشهيد، في عيد الشهداء، عطر الرياحين وشقائق النعمان، بهم تزدهي السماء وتتعطر الأرض من دمائهم الطاهرة الذكية :
( يوم الشهيدِ: تحيةٌ وسلام
بك والنّضال تُؤرَّخُ الأعوام
بك والضحايا الغرِّ يزهو شامخاً
عِلمُ الحِباب. وتفخرُ الأرقام
بِك والذي ضمَّ الثرى من طِيبهم
تتعطّر الأرضون والأيّام
بك يُبعثُ الجيلُ المُحتّم بَعثه
وبك القيامة.ُ للّطُغاة تُقام)
ولعلنا نتذكر تلك الأبيات الخالدة في مناهج المرحلة الإعدادية والثانوية والتي تمجّد الشهادة والشهداء، نتذكر قصيدة أحمد شوقي في رثاء البطل عمر المختار (أسد الصحراء) الذي قاوم المستعمر الإيطالي بكل شجاعة وبسالة حيث يقول :
( رَكَزوا رُفاتَكَ في الرِمالِ لِواءَ
يَستَنهِضُ الوادي صَباحَ مَساءَ
يا وَيحَهُم نَصَبوا مَناراً مِن دَمٍ
توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ
ما ضَرَّ لَو جَعَلوا العَلاقَةَ في غَدٍ
بَينَ الشُعوبِ مَوَدَّةً وَإِخاءَ
جُرحٌ يَصيحُ عَلى المَدى وَضَحِيَّةٌ
تَتَلَمَّسُ الحُرِّيَةَ الحَمراءَ )
أما الشاعر محمود درويش فقد كتب الكثير من القصائد التي يصف فيها عطاء الشهيد وكرَمه وما قدمه في سبيل الوطن والقضية :
(رأيت الشهداء واقفين، كلٌ على نجمته، سعداء بما قدّموا للموتى الأحياء من أمل./ ورأيتَ رأيت رأيت بلاداً يلبسها الشهداء ويرتفعون بها أعلى منها / وحياً وحياً. ويعودون بها خضراءَ وزرقاء / وقاسيةً في تربية سلالتهم: موتوا لأعيش! / فلا يعتذرون ولا ينسون وصاياهم لسلاتهم: أنتم غَدُنا، فاحيَوا كي نحيا فيكم!/ وأَحِبُّوا زهر الرُمّان/ وزهر الليمون…)
والشاعر سميح القاسم، شاعر المقاومة أجاد في وصف الشهيد ومواكب تشييعه، فالشهيد يرتقي إلى العلياء،إلى المجد، روحه تحرس رفاق دربه وروابيه وبيوت أحبابه، إنّه الشهيد عنوان الكرم والإباء والعزّة والكرامة :
(خلو الشهيـد مكفنـا بثيابـه
خلوه في السفح الخبيـر بما بـه
لاتدفنوه.. وفي شفـاه جراحـه
تدوي وصيـة حبـه وعذابـه
هل تسمعون؟دعوه نسراً داميـاً
بين الصخور يغيب عن أحبابـه
خلوه تحت الشمس تحضن وجهه
ريح مطيبـة بـأرض شبابـه
لاتغمضـوا عينيـه إن أشعـة
حمراء مازالـت علـى أهدابـه
وعلى الصخور الصفر رجع ندائه
يا آبهاً بالمـوت لسـت بآبـه
خذني الي بيتي، أُرح خدي علـى
عتباته.. وأبـوس مقبـض بابـه
خذني إلى كرم أمـوت ملوعـاً
ما لم أكحِّـل ناظـري بترابـه)
ولانهم ينابيع عطاء ،استمرت قوافل الشهداء، قوافل النور ، فكان شهداء الصراع العربي الصهيوني حيث روت الدماء الطاهرة ثرى الجولان وجبل الشيخ في حرب تشرين التحريرية وحرب الاستنزاف ،وتحرير مدينة القنيطرة ورفع علم الوطن في سمائها عالياً خفاقاً ….
وبإرادةٍ ثابتةٍ وإيمانٍ مُطلق بحتميّة الإنتصار، واجهت سورية الإرهاب الأسود فكراً وممارسة ً ،حاربته بالعقيدة والإيمان بالوطن، لاحقت فلوله في كل الجغرافية السورية، وطهرت البلاد من رجسه، لقد قدمت سورية وخلال حربها ضد الإرهاب قوافل الشهداء، مشاعل النور والضياء، فكانوا بحق منارات الخلود، وضمن ما كتبه الأدباء في هذه المرحلة، ما كتبه الشاعر شفيق الموعي، حيث قدّم في مجموعته الشعرية (مرود) باقة غنيّة من القصائد الوطنية والوجدانيّة التي تمجّد الشهادة والشهداء، فالشاعر يكتب بحرقة ولوعة الأب الذي قدّم ابنه وفلذة كبده شهيداً من أجل عزّة الوطن ومجده واستقراره.
فقصيدة (مرود) قصيدة طافحة بالصدق والشموخ، عبْر فيها عن صدق مشاعره، ونبل أحاسيسه وهو يخاطب ابنه الشهيد:
(مرحى شهيدَ العصرِ يا قبساً من
النورينِ في الإشراقِ والآصال
يا قابضاً جمرَاللظى بيمينهِ
تُردي العِدا بحسامِك الصّلال
ناديتَ يا وطني فلبّى مسرعاً
كالبرق لمّاحاً بلا إمهال
ما أعظمَ البطل الشهيدَ وعزُّه
زحمَا السْماءَ برفعةٍ وجلال)
تظل الشهادة ( قيمة القيم وذمّة الذمم)، قيمة مقدسة تعيش في العقل والوجدان، وهي حياة خالدة رحبة ، وطريق لتحقيق النصر واسترداد الحقوق وبناء الغد الحرالكريم، (فمن حمل الشهادة في عقله وقلبه لا تقهره قوة ولا يهزمه عدوان.)
العدد 1188 –7-5-2024