مجازر غزة.. اعتصام طلاب الجامعات الأمريكية، وسواها.. صوت الضمير الإنساني المناهض للظلم الذي اهتز لهول ما رأى عبر الشاشات.. الأحداث الأليمة التي أسفرت عن سقوط آلاف الضحايا الأبرياء من المدنيين العزّل في سلسلة لا تنتهي من أبشع الجرائم التي لم تشهد البشرية لها مثيلاً من قبل.. كلها عناوين تقتحم نشرات الأخبار، وتقتحم رؤوسنا بما لا نطيق.
موجة من غضب، واستنكار عارم عالميين تجاه تلك المجازر، وتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي نُكب بعدو متغول ما شكل رد فعل قوي أدى إلى اندلاع احتجاجات في مختلف أنحاء العالم، واعتصامات طلابية تعكس وعي الشباب بالظلم، والقمع الذي يتعرض له الفلسطينيون بينما العدو الغاصب يبتكر أساليب تدميرية ليس لقتل الأرواح البريئة فقط بل أيضاً لاغتيال روح المكان لا بتغيير معالمه وإنما بمحو جغرافيته عن خارطة العالم بينما الأقمار الصناعية ترصد، وعدسات الكاميرات تصور.
والوصمة العدائية بالمعاداة التي يصمون بها تلك الاعتصامات يفضحها زيفها، وما تنطوي عليه من كذب، وافتراء مردود على أصحابه، لأن جميعنا يعلم كيف حظيت الاعتصامات بأهمية كبيرة عبر التاريخ عندما ساهمت في تحقيق تغييرات جذرية كما الاعتصامات السلمية في الهند بقيادة (المهاتما غاندي) التي تمكنت من إنهاء الاستعمار البريطاني، وتحقيق الاستقلال. ومثلها في الولايات المتحدة لإنهاء التمييز العنصري، وتحقيق المساواة، وكذلك لتحرير جنوب أفريقيا، وغيرها.
إنها جامعات النخبة تلك التي ثارت بعد أن استنفذت تلك المجازر المروعة قدرة الناس جميعاً على احتمال مشاهدتها فدفعتهم من جهة إلى الخروج للشوارع في مظاهرات مستنكرة، وإلى الاعتصامات السلمية في حرم الجامعات في دعوة لإيقاف هذا النزف من شريان العنف غير المبرر من جهة أخرى، وإلى الاعتراض على التواطؤ السافر لحكوماتهم، وجامعاتهم مع دولة الاحتلال تلك الإبنة المدللة، والفاسدة، والتي بات يحق لها ما لا يحق لغيرها من تمرد على كل القوانين الإنسانية، والأعراف الدولية.. وإلى الاعتراض على التناقض السافر أيضاً ما بين ادعاء القيم المثلى، وممارستها فعلاً على أرض الواقع.
وإذا كان هؤلاء الطلبة الذين ينتسبون إلى أهم جامعات العالم هم من خيرة الطلاب ممن يتمتعون بالذكاء، والمعرفة، فمن البدهي أن تصحو الضمائر لديهم وهم يشهدون أكثر الأحداث دموية، ومأساوية في العصر الحديث.
لطالما كانت الاعتصامات وسيلة قوية لتسليط الضوء على القضايا العالمية، وجذب الانتباه إليها، ولتوحيد الصوت، وتعزيز الوعي الجماعي بالقضايا الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والتعبير عن المواقف والاحتجاجات، والناس حول العالم يلجأون إليها لأنها تعكس إرادة الشعوب، وتذكّر الحكومات، والسلطات بمسؤوليتها تجاه شعوبها. فعندما يدرك الناس أن هناك أزمة ما كبرى تحتاج إلى حل فإنهم يتحولون إلى الشوارع، والميادين، لإعلان مواقفهم، وللمطالبة بالحل، وبالعدالة، والتغيير.
إن أصوات آلاف الطلاب، واعتصاماتهم، هو صوت الضمير الذي يذكِّر العالم بقيم الإنسانية، وحقوق الإنسان.. وهؤلاء إنما يقدمون نموذجاً ملهماً للتضامن العابر للحدود، والقارات مع القضية العادلة للشعب الفلسطيني، لاسيما وأنهم يتعرضون إلى عقوبات قاسية لا تليق بصحوة الضمائر لأنها تصل إلى الحرمان من الحصول على الشهادة الجامعية، أو العثور على مجال وظيفي مستقبلاً، أو سحب المنح الدراسية التي يتابعون بفضلها تحصيلهم العلمي.
مرحلة حاسمة في تاريخ الشعوب، ومسارها نحو العدالة، والتقدم.. تذكرنا بقوة الصوت الجماعي، والقدرة على التأثير في السياسة، والمجتمع لأنها تحث على الاستماع إلى صوت الشعب، والاستجابة لمطالبه مادام الجميع يعمل معاً لإحياء الضمير، وإحقاق الحق في عالم اليوم المضطرب بالأطماع، والعدوان.
عندما يصحو ضمير العالم.. وتتحرك الشعوب بقوة لإيقاف مجازر غزة، وتحقيق العدالة.. يمكننا عندئذ أن نأمل في يوم يكون فيه الحق، والعدالة هما الغالبان، إن قضية غزة لم تعد قضية فلسطين وحدها، بل أصبحت قضية إنسانية عامة تحتاج إلى دعم العالم بأسره، وتضامنه معها لاستعادة حق الحياة لشعب يستحق بجدارة الحياة.. إنها الدعوة للتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر.
السابق