الثورة – يمن سليمان عباس:
يبدو أن اكتشاف وحل الكثير من الألغاز التي كانت عصية على الفهم في سلوكنا.. نقول مثلا عن (غريب وضعه لمين طالع) إشارة منا إلى أمر قد يكون سيئا أو جيدا لا نعرف سبب تصرفه.
علم النفس السلوكي مع الفيزيولوجيا بدأ بحل هذه الألغاز .مارك وولين في كتابه المهم لم يبدأ الأمر معك ..الصدمات الأسرية الموروثة يتحدث عن ذلك ويحل الكثير من الأسرار.. فهل تتوقع مثلاً أن الصدمات التي تعرض لها أجدادك ستصل إليك.. وكيف تصل وهي ليست فيزيولوجية.
أسئلة كثيرة يجيب عنها في هذه الدراسة المهمة التي ترجمتها إلى العربية الدكتورة رنيم محمود يوسف وصدرت عن الهيئة العامة للكتاب بدمشق، تحت عنوان “ذهن الأسرة” يقول:
بغية وضع الأمر في صيغة بسيطة أننا نرث جوانب من أمومية جدتنا من خلال أمنا، إن الصدمات التي تحملتها جدتنا وآلامها وأحزانها والصعوبات التي واجهتها في طفولتها أو مع جدنا وخسارة أولئك الذين أحبتهم وماتوا في وقت مبكر، تتغلغل هذه الأمور إلى حد ما في الأمومية التي منحتها لأمنا.
وإذا ما نظرنا إلى الخلف إلى جيل آخر فمن المرجح أن يكون الأمر عينه صحيحا بالنظر إلى الأمومية التي تلقتها جدتنا.
قد تكون تفاصيل الأحداث التي شكلت حيواتهم حجبت عن رؤيتنا إنما وعلى الرغم من ذلك يمكن الشعور بتأثير تلك التفاصيل على نحو عميق بأن الأمر ليس ما نرثه من آبائنا فحسب بل الطريقة التي تمت تربيتهم وفقا لها هي ما يؤثر في كيفية ارتباطنا مع الشريك وكيف نتواصل مع أنفسنا وكيف نرعى أطفالنا.
في كل الأحوال يميل الوالدون إلى تمرير الوالدية التي تلقوها هم أنفسهم.
يبدو أن هذه الأنماط مدمجة في الدماغ وتبدأ في التكوين قبل أن نولد حتى، إن كيفية ارتباط أمهاتنا معنا في الرحم لها دور أساس في نمو دائرتنا العصبية.
يقول توماس فيرني (منذ لحظة الحمل تشكل التجربة في الرحم الدماغ وتضع الأسس اللازمة للشخصية والمزاج العاطفي وقوة الفكر السامي). إن هذه الأنماط تعد بمنزلة مخطط هي منقولة أكثر من كونها مكتسبة.
تعمل الأشهر التسعة الأولى خارج الرحم بوصفها استمرارا للنمو العصبي الذي يحدث داخل الرحم أي الدوائر العصبية تبقى، وأيها يجري التخلص منها، وكيف سيتم تنظيم الدوائر المتبقية هي أمور تعتمد على كيفية إحساس الرضيع بالأم أو مقدم الرعاية وتفاعله معهما. إن الطفل يستمر في إنشاء مخطط لإدارة المشاعر والأفكار والسلوكيات من خلال هذه التفاعلات المبكرة.
حينما تحمل الأم صدمة موروثة أو أنها عانت من انقطاع في الرابطة مع والدتها يمكن لهذا أن يؤثر في الرابطة الرقيقة التي هي قيد التكوين مع طفلها الرضيع، ومن المرجح أن تنقطع هذه الرابطة، وبالتالي يمكن أن يكون تأثير حدوث انفصال مبكر في الرابطة التي تجمع الأم والطفل إقامة طويلة في المستشفى قضاء عطلة سيئة التوقيت أي انفصال لفترات طويلة يعد أمراً مدمرا للرضيع، إذ إن الألفة العميقة المتجسدة لرائحة الأم ملمسها لمستها صوتها ومذاقها، أي كل شيء أصبح الطفل يعرفه ويعتمد عليه قد اختفى فجأة.
يقول الكاتب في علوم السلوك “وينيفريد غاليغر”: تعيش الأم والذرية في حالة بيولوجية تحمل العديد من المقومات المشتركة مع الإدمان، حينما يكونان مفترقين لا يفتقد الرضيع أمه فقط، إنه يعاني من انسحاب جسدي ونفسي لا يختلف عن محنة مدمن الهيروين الذي يتوقف عن التعاطي فجأة، يساعد هذا التشبيه في تفسير سبب احتجاج جميع الثدييات حديثة الولادة بما في ذلك البشر بهذه القوة عندما يجري فصلهم عن أمهاتهم.
انطلاقاً من منظور الرضيع يمكن الشعور بالانفصال عن الأم بوصفه (مهدئا للحياة) كما تقول الدكتورة ريلين فيليبس طبيبة الأطفال حديثي الولادة في مستشفى الأطفال في جامعة لوما ليندا وتقول: إذا استمر الانفصال لفترة طويلة فإن الاستجابة تكون اليأس، أي يستسلم الطفل. تتشارك الدكتورة فيليبس هذا الفهم مع الدكتورة نيلز بيرغمان وخبراء آخرين في علم أعصاب الترابط بين الأم والرضيع.
هذا البحث المهم يقدم إجابات على ما يقف المرء حائرا أمامه. لماذا حدث ذلك وكيف ..
قال أجدادنا القدماء(أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر).
فعلا إن الإنسان بكل ما فيه معجزة الخالق ولن يصل العلم مهما تقدم إلى فك إلا النزر اليسير من أسراره الوراثية.