الثورة _ فؤاد مسعد:
هل هناك أقسى من الفراق؟ وماذا لو كان هذا الفراق لمن عرفته وعايشته على مدى سنوات طويلة ليس كمبدع سينمائي متفرد وحسب، وإنما كإنسان يفيض حباً ودفئاً ونبلاً وأصالة وإنسانية؟. عندها كل الكلمات تصغر أمام وجع الفقد.
هو المخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد الذي اختبر الفقد منذ ثلاثة أعوام برحيل «شريكة عمره» زوجته لاريسا، وفي الأمس القريب بذكرى ميلادها، كتب بألم: «صباح الخير لاريسا، اليوم 4 أيار، يوم ميلادك، سأحتفي به بطريقة تليق بنبل روحك الطوافة حولي»، وبعد أقل من أسبوعين يغادرنا ليكونا معاً من جديد في السماء.
عبد اللطيف عبد الحميد الذي كان يُعشّق الهموم الموجعة بالسخرية الواخذة، ويصرّ في نهاية الكثير من أفلامه على صفع المشاهد بشكل مُفاجئ، ليكتشف بعد عودة الإنارة إلى صالة العرض أن أعين الجمهور حوله قد اغرورقت بالدموع. كان يصر أن يبكينا بلحظة مُفاجئة تحمل الدهشة وجرعة إنسانية عالية، بقدر شفافيتها بقدر ألمها، واليوم يصفعنا من جديد بشكل مُفاجئ ويُدهشنا، يبكينا حد الوجع برحيله المفجع، تاركاً غصة بطعم العلقم.
القلب النقي الذي لا يعرف إلا الحب توقف عن الخفقان، معلناً رحيل أحد أبرز السينمائيين السوريين، الذي استطاع أن يحصد للسينما السورية حوالي «50» جائزة من مهرجانات عربية وعالمية. هو مبدع انتصر للحب في حياته وأعماله ورؤيته للحياة وتعاطيه معها. أذكر تماماً عندما تحدث عن مفهوم الحب في أفلامه عبر أحد لقاءاتي معه، قال «أرى أن الحب هو موّلد الحياة».
كثيراً ما قدّم جرعة الحب الموجعة في أفلامه، والتي على الرغم من قسوة العديد منها إلا أن الرومانسية والحميمية وفيض المشاعر الإنسانية، كانت سمات حاضرة فيها، تعكس نبله وأصالته. كان ينظر دائماً إلى عمق الروح ملتقطاً جمالها حتى في أحلك اللحظات، هكذا هي أفلامه التي ينتظرها الكثيرون بشغف داخل سورية وخارجها، معجونة بتركيبة سحرية من العمق والبساطة، مرسخاً من خلالها هوية إبداعية خاصة، ولعل واحدة من أهم ميزاتها أن من يشاهدها وإن لم يرَ اسم المخرج في «التيترات» يمكنه من اللحظات الأولى معرفة من هو مخرجها.
المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الذي نعته وزارة الثقافة والمؤسسة العامة للسينما ونقابة الفنانين، يعتبر أحد أهم رموز السينما العربية، هو مواليد عام 1954، خريج المعهد العالي للسينما في موسكو 1981، أنجز للمؤسسة العامة للسينما بعد عودته إلى الوطن فيلمين تسجيليين «أمنيات» و»أيدينا». ثم عمل مخرجاً مساعداً في فيلم «أحلام المدينة» إخراج محمد ملص عام1983، وقام عام 1988 بإخراج أول أفلامه الروائية الطويلة في المؤسسة، «ليالي ابن آوى» الذي حصد مجموعة من الجوائز، منها «سيف دمشق الذهبي 1989، الزيتونة الذهبية في مهرجان حوض المتوسط بكورسيكا 1989، الجائزة الذهبية من مهرجان الفيلم الأول الدولي في انوناي بفرنسا 1990». وجاء بعده فيلم «رسائل شفهية» عام 1991، وكرت السبحة لأفلام كانت سفيرة للسينما السورية في كل مكان، «رسائل شفهية، صعود المطر، نسيم الروح، قمران وزيتونة، ما يطلبه المستمعون، خارج التغطية، أيام الضجر، مطر أيلول، العاشق، أنا وأنت وأمي وأبي، طريق النحل، عزف منفرد، الإفطار الأخير، الطريق».
وبرحيله يترجل مبدع بحجم مدرسة بعد سنوات طويلة من العطاء، تاركاً وراءه إرثاً سينمائياً لا يمحوه الزمن، حُفِر في الذاكرة بماء من ذهب. ويبقى العزاء بما سطره من أعمال سينمائية خالدة، تشكل نقطة علام في الحراك السينمائي العربي.
