الثورة- هفاف ميهوب:
لا يتوارى وإنّما يلوذ في لوحته، حيث الجمال، المدى، العقل، النور، التجدّد، الرقي.. فيا ترى، هل هناك مكان أكثر جمالاً ورحابة، من هذا العالم المعطّر بسيرته؟..حتماً لا.. لا يوجد مكان يفضّل الفنان التشكيلي «محمد بدر حمدان» العيش فيه، إلا حيث عِشقُه.. عالمُ الضوء والألوان والطبيعة التي بحث في أعماقها، وحاكى حتى أوراقها، وبجموحٍ أشبه بجموحِ المحاكاة التي تدور بين البحر ولاذقيّته..
نعم، هو عالمه، عالمُ «الفنان الذي يكتب الزمن بصريّاً». يكتبه بصمتٍ، وبلغةِ الضوء التي تحاكي الإحساس بأشكالها وألوانها، ودون أن يحتاج إلى حرّيةٍ أو محبّةٍ أو أحلام، فالفنان برأيه: «هو الحرية والمحبة والأحلام، وكامل الصدق والعفويّة، خارج كلّ قوانين العقل المكبّل بالأحكام البلهاء».
إنه العالم الذي أضاءته ذاكرة طفولةٍ، لا يزال يرصّع بمفرداتها تاريخه الفني. ذاكرة الطبيعة وإنسانها، وغير ذلك مما كان يتأمّله بعمقٍ، فيشعر بأنه يزداد جمالاً كلّما تعمّق في محاكاته أكثر، ودون أن يعلم بأن هذا التصفّح البصري:
«لم أكن أعلم أنني أتصفّح أوّل خطوات حواريَّ البصريّ، وأوّل حوارتي مع الأشكال والتكوينات وخلايا المكان.. لم أكن أعلم أنني كنتُ أبني رحمي البصريّ الأول..».
يعترف بذلك، وهو يستدعي كلّ مقومات هذا البناء.. يحاكي كلّ تفصيلٍ وشكلٍ فيه، بلغةٍ باذخه الشاعرية.. يحيل الوجوه وبمختلف حالاتها، إلى مفردةٍ يحلّلها ويناقشها ويبرعُ في الاستماع إلى مشاعرها، وإلى كلّ ما يجعل منها، لوحة أو قصيدة أو قصة، تهرب من الحياة إليه، كما «ورقة شجرٍ هاربة من ريحٍ تلهو بشعرِ صبيّة..»..
تتراكم هذه التفاصيل والأشكال، في حواره الصامت.. الحوار الذي وجده يشكّل جمالاً أشبه بموسيقى الحضارة التي تعزف الأصالة، وتشي بتاريخ الثقافة وشتى الفنون التشكيلية.. موسيقى الأبجدية الأولى التي أشعرته، ومُذ بدأ بمحاورتها، بأنها تنطق ببراعةٍ تعدّدت ألوانها، فكانت الثقافة التي دلّت على تشكيلاته الفنية.. دلّت أيضاً، على بلاغة فكرها وفلسفتها، مثلما على تمرّسها في تقديم مشاهدٍ، يتّصل فيها التاريخ بحاضرٍ، يتألق دوماً في حواره مع أوغاريّتها:
«هناك مشاهد حملها الفنّ لنا منذ آلافِ السنين، ولم نستطع حوارها حتى الآن، وهي حاضرة ببهائها ومبالغاتها الفاتنة.. الكثير من الأفكار الفلسفية لما زال حاضراً ومستمراً، و لا ننسى الطقوس الجميلة، التي تغرف جذورها من أعماق حضارةٍ هنا، ومكتبة صامتة يختبئ التاريخ في كلماتها في الناحية الأخرى»..
هذا هو «محمد بدر حمدان».. الفنان الذي يعزف موسيقا اللون برؤيته، ساعياً إلى خلقِ الجمالِ وثقافته.. ثقافة العين التي تحاور العمل الإبداعي عبر بحثها عن قيم الجمال الكامنة فيه، وتدقيقها في تدرّجات ألوانه، وهو الإبداع الحقيقي الذي يُعتبر، نتاج استكشافٍ دقيقٍ لفنانٍ يرى بأن عليه:
«الرؤيا والثقافة والحرفة، الرؤيا التي هي مفتاح الحلم إلى آفاق البحث، والكشف عن مفاتنٍ جديدة، يحملها الشكل في مكنونه الذي لا ينضب، والمكان في اتّساعه الذي لا حدود له، وأيضاً الحوار الذي لا يموت.. والحرفة بمعنى المهارة والتقنية، لا بمعنى المقياس والقياس..».
كلّ ذلك يجعلنا نقول، إن «حمدان» فنان ذو بصمة خاصة تدلّ عليها لوحته، وذو رؤية عميقة ودقيقة، في بحثه عن لوحات ومنحوتات وتشكيلاتٍ، يسعى لتجديد جمالها بمهارته.. يسعى أيضاً، لفلسفةِ عنوانها وألوانها، بلغةٍ عفويةٍ ومشاغبةٍ وجريئة، في إصرارها على خلقِ فضاءاتٍ من الجمال، تحكي وترسم وتكتب، كل ما يعكس آلام الفنّ، وحكاية اللون الذي يتماهى مع مفرداتٍ تتباهى بالاكتمال.
باختصار: هو فنانٌ يتقن الكثير من اللغات، لكن الصمت المبدع لغته.. يجيد تحويل اللون إلى ألحان، وتشكيلاته إلى أناشيدٍ، هي العالم الذي جعل قناعته:
«اللوحة أكثر صدقاً.. ابعدوا عنّي الكلام»..